الحل العادل للقضية الكردية في تركيا لمصلحة الجميع

الخلاف حول طبيعة القضية الكردية في تركيا، وسقف حلّها، وآلية تطبيقه، والضمانات المستقبلية بخصوصه، هو على أشدّه بين الجانبين المعنيين مباشرة بحل هذه المسألة: التركي والكردي من جهة، وكذلك القوى الفاعلة في كل جانب من جهة ثانية.

فالتوجه التركي العام منذ تأسيس الدولة التركية المعاصرة كان وما زال لدى أوساط تركية مؤثرة هو الإصرار على التجانس القومي ضمن تركيا، وذلك عبر فرض سياسة تتريك شاملة، حقّقت أهدافها إلى حدٍ كبير، ورفض الاعتراف بأية خصوصية قومية – واقعية موجودة لا تقرّها سياسة الدولة المعتمدة رسمياً.

أما الجانب الكردي فكان وما زال عبر أوساط فاعلة فيه، يحلم بالدولة الكردية التي ناضل في سبيلها أكثر من قرن، وقدّم من أجلها تضحيات لا تحصى، خاصة على صعيد نخبه الثقافية والمجتمعية والدينية.

وقد ظلّت هذه المسألة باستمرار الهاجس الأكبر لمفاصل الدولة التركية، خاصة ضمن المؤسستين العسكرية والأمنية، وكانت كل الجهود تتركز حول الرفض المطلق لأي وجود كردي قومي ضمن حدود دولة تركيا الحالية. وفي الوقت ذاته كانت تركيا مشاركة في سائر الجهود الإقليمية، مع كل من العراق وإيران وسورية، الرامية إلى الحدّ من «الخطر الكردي»، وفق التعبير الرسمي الذي كان معتمداً من قبل الدولة المعنية، وبالتالي كان التعامل الدائم مع القضية الكردية على أساس أنها مشكلة لا مجال لمعالجتها سوى عبر الحل الأمني- العسكري.

وجاء الانقلاب العسكري عام 1980 الذي قاده كنعان ايفرين ليكون حسماً عسكرياً آنياً، الهدف منه المصادرة على احتمالية تفاعل نشاط الأحزاب الكردية المتنامي في ذلك الحين مع المشاعر الشعبية القومية الكردية، الأمر الذي كان من شأنه إفشال كل السياسات الرسمية الهادفة إلى فرض الصهر القومي على الكرد، وإلغاء وجودهم القومي على مختلف المستويات.

ومع انطلاقة العمل المسلّح لحزب العمال الكردستاني عام 1984، دخلت الأمور مرحلة جديدة، ولم يعد في مقدور النظام التركي حجب واقع وحجم وجدية الموضوع الكردي في تركيا عن العالم. وكان من الواضح في الوقت ذاته أن القوى الإقليمية الأخرى قد استغلّت عدالة القضية الكردية وواقع ضعف الحركات السياسية الكردية في تركيا وتشرذمها، فتبنّت حزب العمال الكردستاني، وبدأت تمدّه بالإمكانيات، وتفسح له المجال لتجنيد الكرد من خارج كردستان تركيا، خاصة في سورية وإيران، باعتبار أن نظامي البلدين المتحالفين منذ بداية الثمانينات كانا الراعيين الأساسيين للحزب المذكور، وذلك منذ خروج زعيمه عبدالله أوجلان من تركيا عام 1979، واستقراره في سورية.

والأمر الذي لا بد أن يؤخذ بعين الاعتبار هنا، هو أن توجهات حزب العمال الكردستاني كانت في ذلك الحين يسارية في المقام الأول، ولم تكن قومية بحتة إذا صح التعبير، حتى أنه دعا في بداية الثمانينات إلى إنشاء جمهوريات شرق أوسطية سوفياتية، استلهاماً للتجربة السوفياتية الروسية حينذاك. لكن الأمر اللافت منذ البداية أن الحزب المعني كان صاحب نزعة براغماتية، لا تمنعه من التحالف مع أي كان، وإعادة النظر في الاستراتيجيات والتكتيكات في ضوء مصلحته، وهذا ما لمسناه بوضوح في مناقشاتنا مع كوادر هذا الحزب الأوائل، ومنهم جميل بايك وعبدالله أوجلان نفسه.

ومع اتّساع نطاق المعارك في مناطق مختلفة من كردستان تركيا، وتزايد حدتها، أدرك الرئيس التركي الراحل تورغوت أوزال عقم مآلات السياسة التركية العبثية والإنكارية في ميدان التعامل مع القضية الكردية. فقد كان الرجل، من موقع مسؤوليته وخبرته وتطلعه إلى تركيا قوية اقتصادياً لتكون لاعباً فاعلاً ومؤثراً على المستويين الإقليمي والدولي، يدرك أن بلاده لن تتجاوز مشكلاتها من دون حل القضية الأساسية التي ترهق الداخل التركي، وتُفسح المجال أمام القوى الإقليمية المنافسة، خاصة إيران، لاستغلال الورقة الكردية لمصلحة سياساتها. وهذا في حين أن السياسة التركية الرافضة للوجود الكردي أصلاً في تركيا كانت مسدودة الآفاق، وتسبّبت باستمرار في إحراجات كبيرة لتركيا على المستوى الدولي، الأمر الذي كان ينعكس، في تفاعله مع الوضعين الداخل والإقليمي، سلباً على مجمل الجهود الرامية إلى انتشال تركيا من المشكلات التي كانت تعاني منها حينذاك. ومن هنا كانت مبادرة أوزال عبر جلال طالباني عام 1993 لفتح قناة مع العمال الكردستاني للوصول إلى حل واقعي ممكن. لكن المبادرة تلك لم تصل بكل أسف إلى مبتغاها، وكان رحيل أوزال المفاجئ، ومن ثم استمرار النزاع واعتقال أوجلان لاحقاً، بعد أن تخلّى عنه حافظ الأسد عام 1999، وتوقيع الأخير على اتفاقية أضنة الشهيرة مع تركيا.

ومع تسلّم حزب العدالة والتنمية مقاليد الحكم في تركيا، أدرك هذا الحزب، الذي استلهم بهذا الشكل أو ذاك تطلعات وجهود الرئيس أوزال، أن حلّ القضية الكردية بصورة عادلة أمر لا غنى عنه في أي سعي استراتيجي طموح على المستويين الإقليمي والدولي.

لكن، في المقابل، لم يعد سراً عدم ارتياح العديد من القوى الإقليمية لأخبار وتطورات المباحثات بين الجانبين التركي والكردي لحل القضية الكردية، خاصة إيران وسورية، وعمل تلك القوى بكل السبل على عرقلة هذه المباحثات، بل المصادرة على نتائجها المرجوة بأساليب عدة، بينها الضغط على المفاصل المتناغمة معها ضمن العمال الكردستاني نفسه، واستخدام ورقة كرد سورية، ومحاولة توسيع دائرة التغلغل الإيراني في العراق، ليشمل إقليم كردستان العراق أيضاً بهذه الصورة أو تلك.

كل ذلك كان يتفاعل، بطبيعة الحال، مع الواقع التركي الداخلي، لا سيما لجهة المعارضة التي ما زالت تعتمد المنظومة المفهومية الكمالية مرجعيّة لها في سياساتها التي تتناول القضية الكردية.

ولتجاوز ذلك، تحتاج الحكومة التركية، باعتبارها من يدير الدولة بناء على الدستور، أن تقدم على خطوات جدّية، تعزز الثقة لدى الجانب الكردي، وتضع المعارضة أمام مسؤولياتها، لتصبح الخطة المعتمدة حالياً من قبل الحكومة لحل القضية الكردية خطة وطنية عامة، لا مجرد خطة مرحلية لحكومة تنتظر مع الجميع نتائج الانتخابات.

وبالانسجام مع ذلك، نرى أن المطلوب من الجانب التركي راهناً التفاعل الإيجابي مع دعوة أوجلان، وهذا يستوجب تشخيص المسائل بصورة أدق وأعمق، وتسمية الأمور بمسمياتها، ليتمّ الحديث بصورة شفافة عن سعي حقيقي مسؤول لحل القضية الكردية في تركيا. أما العبارات العامة التي تقول كل شيء، ولا تقول أي شيء في الوقت ذاته، فلن تستطيع إقناع الكرد وكسب ثقتهم وتفهّمهم بعد كل هذه العقود من المعاناة والتضحيات والانتظار.

ويبقى أن نقول إن حل القضية الكردية في تركيا بصورة عادلة مقنعة، سيكون عاملاً مهماً من عوامل استقرار المنطقة وتوازنها.

عبد الباسط سيدا

Comments (0)
Add Comment