«ليس ربيعاً عربياً بل خريف دموي ومحرقة نشرت الدمار والدماء»… «ليست ثــــورات بل أزمات سوداء حولت مجتمعاتنا إلى أشـــلاء تفيــض بالحقد والعنف والكراهية عـــوضـاً عن الحرية والتعايش والكرامة»…، هـــي عبارات صار استخدامها شائعاً اليوم للطعـــن برياح التغيير وبمشروعية انطلاق التحركات الشعبية في غير بلد عربي.
والمفارقة، أن تعبير ربيع براغ لم يسحب من التداول لوصف أحداث تشيكلوسوفاكيا 1968 لمجرد أن القوة العسكرية أهرقت الدماء وتمكنت من سحق حراك الناس المطالبين بالحرية، مثلما لم يلغ وصف بعض الانتفاضات الشعبية بالثورات لمجرد أنها فشلت أو تشوهت وانحرفت أو انزلقت إلى حروب أهلية. فأسباب الحدث ودوافعه الموضوعية هي التي تحدد ماهيته بغض النظر عن النتائج والمآلات التي قد يصل إليها، والتي غالباً ما ترتهن لمصالح وتوازنات داخلية وخارجية، تؤثر فيه وتقسره على مسار ربما يتعارض مع أهدافه الحقيقية وما كان يرنو إليه بداية.
والسؤال، ألم تتصدر حراك الربيع العربي شعارات الحرية والعدالة والكرامة؟! أولم ينتفض البشر ضد واقع يفيض بالقهر والفساد والتمييز والإذلال؟! وهل من خيار بعد استبداد مزمن وما يخلفه من بؤس وتردٍ سوى فتح الأبواب لرياح التغيير؟! وهل كان التاريخ ليعرف الثورات أصلاً لو استمر خنوع الناس بسبب خشيتهم من الفشل ومن التكلفة والتضحيات؟! أولم يكتب لكثير من الثورات الهزيمة تلاها مرحلة انتقام دموية قبل أن تبدأ من جديد وتثمر؟!
لا أحــد يستطيع أن يقدم ضمانات حول مصــير الثورات أو يقدر مسبقاً مآلاتها، فالثـــورة كنهوض شعبي عفوي عارم يسعى للتغييــر لا تصل إلى غايتها لأنها ترفع أهدافاً نبيلة وتستند إلى قوى مقهورة ومضطهدة، فثمة ما يعرف بقوى الثورة المضادة التي تسعى أبداً للحفاظ على الوضع القائم وعلى تسلطها وامتيازاتها، ولا تتردد في استخدام كل وسائل الفتك والتنكيل وتفعيل النزاعات المستندة إلى محمولات متخلفة لتقويض هدف التغير وإفراغه من محتواها، وما يزيد الطين بلة حضور قوى أنانية متنوعة تحسب على الحراك الشعبي لا يهمها سوى طبع الثورة بطابعها وبما ينسجم مع ما تمليه أجندتها الإيديولوجية بعيداً عن شعارات الناس ومصالحهم الحقيقة، والقصد أن الثورات الديموقراطية عملية تاريخية شاقة وتحتاج لشروط موضوعية وذاتية كي تصل إلى غايتها، وطريقها ليس مخططاً ذهنياً جاهزاً للتنفيذ لا تعترضه صعوبات أو مشكلات، بل غالباً ما يشهد ردود أفعال مفرطة في القمع والعنف ثم تشوهات وانحرافات وفي بعض المحطات إرباكات وصراعات على السلطة وإصرار قوى معينة على تخريبه والارتداد عنه.
ونظرة موضوعية لما حدث في بلدان الربيع العربي تكشف أن ما يسمى الخريف الدموي الطائفي ليس سوى ثورة مضادة تقوم بها قوى لا تنتمي إلى شعارات الحرية والكرامة، ولا بد من أن تصل إلى مستنقع الفشل والإخفاق طالما تقف ضد الأسباب الحقيقية لحراك الناس وحقوقهم، وتكشف تالياً أن ما نجم من دمار وخراب وضحايا ومهجرين وتأجيج للصراعات المتخلفة والمذهبية، ليس نتاج الثورة السلمية المطالبة بالتغيير الديموقراطي والعدالة ومكافحة الفساد، بل نتاج العنف والقمع وما خلفه من عنف مضاد، وجراء إهمال الأنظمة لأسباب التغيير واستهتارها بالحلول السياسية ورفض تقديم أية تنازلات تلتقي مع مطالب البشر، بدليل أن غالبية الحراك الشعبي تمنت منذ البداية أن تبادر هذه الأنظمة بإجراء إصلاحات حقيقية تعالج أزمات المجتمع وتحافظ على وحدته وصراعاته السلمية.
والحال، بعيداً من مديح الربيع العربي وتنزيه الثورات مما حل ببعض المجتمعات من مآسٍ ومحن، فإن النتائج الواقعية تقول إن هناك أنظمة استبدادية سخرت كل إمكاناتها لضرب الثورات والإساءة لصورتها، تلقت دعماً مباشراً أو غير مباشر من أطراف إقليمية وعالمية لها مصلحة في وأد الربيع العربي وتشويهه، وتتخوف من تأثير نجاح التغيير الديموقراطي على نفوذها وسلطانها، زاد الطين بلة الدور السلبي الذي لعبته تيارات من الإسلام السياسي والجماعات الجهادية المتطرفة حين استثمرت الفوضى والعنف المذهبي المستعر، لتفرض حضورها وتعمم خطاباً إيديولوجياً أعمى يسوغ كل عنف ويناقض معاني الحرية والتعددية.
وفي العودة إلى تجربة ربيع براغ 1968 لا يخطئ من يعتقد بأن رسوخ البناء الديموقراطي الذي شهدته تشيكلوسوفاكيا عموماً والطلاق السلمي السلس بين تشيخيا وسلوفاكيا هو ثمرة من ثمرات ذاك الربيع، مثلما لا يجانب الصواب من يربط استقرار التحولات الديموقراطية في بلدان أميركا اللاتينية بما كابدته ثوراتها من هزائم ومحن وبفداحة ما قدمته من آلام وتضحيات.
ربما هو صحيح أن الربيع العربي في لحظته الراهنة، لا يسمح باستخلاص نتائج ودروس نهائية، لكن الصحيح أيضاً أن ثمة جديداً تكرس على الأرض وهناك تغيرات نوعية حصلت تركت علامات سياسية ونفسية عميقة في وعي الناس ووجدانهم وطرائق تفكيرها لا يمكن أن تمحى أو تزول.
لا يكاد التاريخ ينتهي في نقطة إلا ويبدأ مجدداً من نقطة أخرى تفتح الباب على صيرورة جديدة تستند إلى ما تراكم من دروس مستقاة من الانتكاسات الحاصلة ومن تنامي قدرة البشر على إدراك خصوصية العقبات التي تعيق دورهم في تقرير مصيرهم وصياغة مستقبلهم، وقد كرس الربيع العربي على رغم إخفاقاته دروساً لا تنسى، أولها حفز دور الإنسان المواطن وجعله أكثر إدراكاً لحقوقه وأكثر جرأة في التعبير عن رفضه للظلم الاجتماعي والقهر السياسي، وأهمها التأكيد على أن طريق العنف مهما بلغ في عنجهيته هو طريق قاصر ومكلف ولا أفق له سوى مراكمة المزيد من الضحايا والخراب، وأن الخيار الأمضى لخلاص الشعوب العربية ونهوضها يبدأ بتغليب الصراعات السياسية السلمية ونفض الرؤوس من أوهام تحقيق الغلبة بتوسل منطق العنف ولغة القوة.
«ليس ربيعاً عربياً بل خريف دموي ومحرقة نشرت الدمار والدماء»… «ليست ثــــورات بل أزمات سوداء حولت مجتمعاتنا إلى أشـــلاء تفيــض بالحقد والعنف والكراهية عـــوضـاً عن الحرية والتعايش والكرامة»…، هـــي عبارات صار استخدامها شائعاً اليوم للطعـــن برياح التغيير وبمشروعية انطلاق التحركات الشعبية في غير بلد عربي.
والمفارقة، أن تعبير ربيع براغ لم يسحب من التداول لوصف أحداث تشيكلوسوفاكيا 1968 لمجرد أن القوة العسكرية أهرقت الدماء وتمكنت من سحق حراك الناس المطالبين بالحرية، مثلما لم يلغ وصف بعض الانتفاضات الشعبية بالثورات لمجرد أنها فشلت أو تشوهت وانحرفت أو انزلقت إلى حروب أهلية. فأسباب الحدث ودوافعه الموضوعية هي التي تحدد ماهيته بغض النظر عن النتائج والمآلات التي قد يصل إليها، والتي غالباً ما ترتهن لمصالح وتوازنات داخلية وخارجية، تؤثر فيه وتقسره على مسار ربما يتعارض مع أهدافه الحقيقية وما كان يرنو إليه بداية.
والسؤال، ألم تتصدر حراك الربيع العربي شعارات الحرية والعدالة والكرامة؟! أولم ينتفض البشر ضد واقع يفيض بالقهر والفساد والتمييز والإذلال؟! وهل من خيار بعد استبداد مزمن وما يخلفه من بؤس وتردٍ سوى فتح الأبواب لرياح التغيير؟! وهل كان التاريخ ليعرف الثورات أصلاً لو استمر خنوع الناس بسبب خشيتهم من الفشل ومن التكلفة والتضحيات؟! أولم يكتب لكثير من الثورات الهزيمة تلاها مرحلة انتقام دموية قبل أن تبدأ من جديد وتثمر؟!
لا أحــد يستطيع أن يقدم ضمانات حول مصــير الثورات أو يقدر مسبقاً مآلاتها، فالثـــورة كنهوض شعبي عفوي عارم يسعى للتغييــر لا تصل إلى غايتها لأنها ترفع أهدافاً نبيلة وتستند إلى قوى مقهورة ومضطهدة، فثمة ما يعرف بقوى الثورة المضادة التي تسعى أبداً للحفاظ على الوضع القائم وعلى تسلطها وامتيازاتها، ولا تتردد في استخدام كل وسائل الفتك والتنكيل وتفعيل النزاعات المستندة إلى محمولات متخلفة لتقويض هدف التغير وإفراغه من محتواها، وما يزيد الطين بلة حضور قوى أنانية متنوعة تحسب على الحراك الشعبي لا يهمها سوى طبع الثورة بطابعها وبما ينسجم مع ما تمليه أجندتها الإيديولوجية بعيداً عن شعارات الناس ومصالحهم الحقيقة، والقصد أن الثورات الديموقراطية عملية تاريخية شاقة وتحتاج لشروط موضوعية وذاتية كي تصل إلى غايتها، وطريقها ليس مخططاً ذهنياً جاهزاً للتنفيذ لا تعترضه صعوبات أو مشكلات، بل غالباً ما يشهد ردود أفعال مفرطة في القمع والعنف ثم تشوهات وانحرافات وفي بعض المحطات إرباكات وصراعات على السلطة وإصرار قوى معينة على تخريبه والارتداد عنه.
ونظرة موضوعية لما حدث في بلدان الربيع العربي تكشف أن ما يسمى الخريف الدموي الطائفي ليس سوى ثورة مضادة تقوم بها قوى لا تنتمي إلى شعارات الحرية والكرامة، ولا بد من أن تصل إلى مستنقع الفشل والإخفاق طالما تقف ضد الأسباب الحقيقية لحراك الناس وحقوقهم، وتكشف تالياً أن ما نجم من دمار وخراب وضحايا ومهجرين وتأجيج للصراعات المتخلفة والمذهبية، ليس نتاج الثورة السلمية المطالبة بالتغيير الديموقراطي والعدالة ومكافحة الفساد، بل نتاج العنف والقمع وما خلفه من عنف مضاد، وجراء إهمال الأنظمة لأسباب التغيير واستهتارها بالحلول السياسية ورفض تقديم أية تنازلات تلتقي مع مطالب البشر، بدليل أن غالبية الحراك الشعبي تمنت منذ البداية أن تبادر هذه الأنظمة بإجراء إصلاحات حقيقية تعالج أزمات المجتمع وتحافظ على وحدته وصراعاته السلمية.
والحال، بعيداً من مديح الربيع العربي وتنزيه الثورات مما حل ببعض المجتمعات من مآسٍ ومحن، فإن النتائج الواقعية تقول إن هناك أنظمة استبدادية سخرت كل إمكاناتها لضرب الثورات والإساءة لصورتها، تلقت دعماً مباشراً أو غير مباشر من أطراف إقليمية وعالمية لها مصلحة في وأد الربيع العربي وتشويهه، وتتخوف من تأثير نجاح التغيير الديموقراطي على نفوذها وسلطانها، زاد الطين بلة الدور السلبي الذي لعبته تيارات من الإسلام السياسي والجماعات الجهادية المتطرفة حين استثمرت الفوضى والعنف المذهبي المستعر، لتفرض حضورها وتعمم خطاباً إيديولوجياً أعمى يسوغ كل عنف ويناقض معاني الحرية والتعددية.
وفي العودة إلى تجربة ربيع براغ 1968 لا يخطئ من يعتقد بأن رسوخ البناء الديموقراطي الذي شهدته تشيكلوسوفاكيا عموماً والطلاق السلمي السلس بين تشيخيا وسلوفاكيا هو ثمرة من ثمرات ذاك الربيع، مثلما لا يجانب الصواب من يربط استقرار التحولات الديموقراطية في بلدان أميركا اللاتينية بما كابدته ثوراتها من هزائم ومحن وبفداحة ما قدمته من آلام وتضحيات.
ربما هو صحيح أن الربيع العربي في لحظته الراهنة، لا يسمح باستخلاص نتائج ودروس نهائية، لكن الصحيح أيضاً أن ثمة جديداً تكرس على الأرض وهناك تغيرات نوعية حصلت تركت علامات سياسية ونفسية عميقة في وعي الناس ووجدانهم وطرائق تفكيرها لا يمكن أن تمحى أو تزول.
لا يكاد التاريخ ينتهي في نقطة إلا ويبدأ مجدداً من نقطة أخرى تفتح الباب على صيرورة جديدة تستند إلى ما تراكم من دروس مستقاة من الانتكاسات الحاصلة ومن تنامي قدرة البشر على إدراك خصوصية العقبات التي تعيق دورهم في تقرير مصيرهم وصياغة مستقبلهم، وقد كرس الربيع العربي على رغم إخفاقاته دروساً لا تنسى، أولها حفز دور الإنسان المواطن وجعله أكثر إدراكاً لحقوقه وأكثر جرأة في التعبير عن رفضه للظلم الاجتماعي والقهر السياسي، وأهمها التأكيد على أن طريق العنف مهما بلغ في عنجهيته هو طريق قاصر ومكلف ولا أفق له سوى مراكمة المزيد من الضحايا والخراب، وأن الخيار الأمضى لخلاص الشعوب العربية ونهوضها يبدأ بتغليب الصراعات السياسية السلمية ونفض الرؤوس من أوهام تحقيق الغلبة بتوسل منطق العنف ولغة القوة.
«ليس ربيعاً عربياً بل خريف دموي ومحرقة نشرت الدمار والدماء»… «ليست ثــــورات بل أزمات سوداء حولت مجتمعاتنا إلى أشـــلاء تفيــض بالحقد والعنف والكراهية عـــوضـاً عن الحرية والتعايش والكرامة»…، هـــي عبارات صار استخدامها شائعاً اليوم للطعـــن برياح التغيير وبمشروعية انطلاق التحركات الشعبية في غير بلد عربي.
والمفارقة، أن تعبير ربيع براغ لم يسحب من التداول لوصف أحداث تشيكلوسوفاكيا 1968 لمجرد أن القوة العسكرية أهرقت الدماء وتمكنت من سحق حراك الناس المطالبين بالحرية، مثلما لم يلغ وصف بعض الانتفاضات الشعبية بالثورات لمجرد أنها فشلت أو تشوهت وانحرفت أو انزلقت إلى حروب أهلية. فأسباب الحدث ودوافعه الموضوعية هي التي تحدد ماهيته بغض النظر عن النتائج والمآلات التي قد يصل إليها، والتي غالباً ما ترتهن لمصالح وتوازنات داخلية وخارجية، تؤثر فيه وتقسره على مسار ربما يتعارض مع أهدافه الحقيقية وما كان يرنو إليه بداية.
والسؤال، ألم تتصدر حراك الربيع العربي شعارات الحرية والعدالة والكرامة؟! أولم ينتفض البشر ضد واقع يفيض بالقهر والفساد والتمييز والإذلال؟! وهل من خيار بعد استبداد مزمن وما يخلفه من بؤس وتردٍ سوى فتح الأبواب لرياح التغيير؟! وهل كان التاريخ ليعرف الثورات أصلاً لو استمر خنوع الناس بسبب خشيتهم من الفشل ومن التكلفة والتضحيات؟! أولم يكتب لكثير من الثورات الهزيمة تلاها مرحلة انتقام دموية قبل أن تبدأ من جديد وتثمر؟!
لا أحــد يستطيع أن يقدم ضمانات حول مصــير الثورات أو يقدر مسبقاً مآلاتها، فالثـــورة كنهوض شعبي عفوي عارم يسعى للتغييــر لا تصل إلى غايتها لأنها ترفع أهدافاً نبيلة وتستند إلى قوى مقهورة ومضطهدة، فثمة ما يعرف بقوى الثورة المضادة التي تسعى أبداً للحفاظ على الوضع القائم وعلى تسلطها وامتيازاتها، ولا تتردد في استخدام كل وسائل الفتك والتنكيل وتفعيل النزاعات المستندة إلى محمولات متخلفة لتقويض هدف التغير وإفراغه من محتواها، وما يزيد الطين بلة حضور قوى أنانية متنوعة تحسب على الحراك الشعبي لا يهمها سوى طبع الثورة بطابعها وبما ينسجم مع ما تمليه أجندتها الإيديولوجية بعيداً عن شعارات الناس ومصالحهم الحقيقة، والقصد أن الثورات الديموقراطية عملية تاريخية شاقة وتحتاج لشروط موضوعية وذاتية كي تصل إلى غايتها، وطريقها ليس مخططاً ذهنياً جاهزاً للتنفيذ لا تعترضه صعوبات أو مشكلات، بل غالباً ما يشهد ردود أفعال مفرطة في القمع والعنف ثم تشوهات وانحرافات وفي بعض المحطات إرباكات وصراعات على السلطة وإصرار قوى معينة على تخريبه والارتداد عنه.
ونظرة موضوعية لما حدث في بلدان الربيع العربي تكشف أن ما يسمى الخريف الدموي الطائفي ليس سوى ثورة مضادة تقوم بها قوى لا تنتمي إلى شعارات الحرية والكرامة، ولا بد من أن تصل إلى مستنقع الفشل والإخفاق طالما تقف ضد الأسباب الحقيقية لحراك الناس وحقوقهم، وتكشف تالياً أن ما نجم من دمار وخراب وضحايا ومهجرين وتأجيج للصراعات المتخلفة والمذهبية، ليس نتاج الثورة السلمية المطالبة بالتغيير الديموقراطي والعدالة ومكافحة الفساد، بل نتاج العنف والقمع وما خلفه من عنف مضاد، وجراء إهمال الأنظمة لأسباب التغيير واستهتارها بالحلول السياسية ورفض تقديم أية تنازلات تلتقي مع مطالب البشر، بدليل أن غالبية الحراك الشعبي تمنت منذ البداية أن تبادر هذه الأنظمة بإجراء إصلاحات حقيقية تعالج أزمات المجتمع وتحافظ على وحدته وصراعاته السلمية.
والحال، بعيداً من مديح الربيع العربي وتنزيه الثورات مما حل ببعض المجتمعات من مآسٍ ومحن، فإن النتائج الواقعية تقول إن هناك أنظمة استبدادية سخرت كل إمكاناتها لضرب الثورات والإساءة لصورتها، تلقت دعماً مباشراً أو غير مباشر من أطراف إقليمية وعالمية لها مصلحة في وأد الربيع العربي وتشويهه، وتتخوف من تأثير نجاح التغيير الديموقراطي على نفوذها وسلطانها، زاد الطين بلة الدور السلبي الذي لعبته تيارات من الإسلام السياسي والجماعات الجهادية المتطرفة حين استثمرت الفوضى والعنف المذهبي المستعر، لتفرض حضورها وتعمم خطاباً إيديولوجياً أعمى يسوغ كل عنف ويناقض معاني الحرية والتعددية.
وفي العودة إلى تجربة ربيع براغ 1968 لا يخطئ من يعتقد بأن رسوخ البناء الديموقراطي الذي شهدته تشيكلوسوفاكيا عموماً والطلاق السلمي السلس بين تشيخيا وسلوفاكيا هو ثمرة من ثمرات ذاك الربيع، مثلما لا يجانب الصواب من يربط استقرار التحولات الديموقراطية في بلدان أميركا اللاتينية بما كابدته ثوراتها من هزائم ومحن وبفداحة ما قدمته من آلام وتضحيات.
ربما هو صحيح أن الربيع العربي في لحظته الراهنة، لا يسمح باستخلاص نتائج ودروس نهائية، لكن الصحيح أيضاً أن ثمة جديداً تكرس على الأرض وهناك تغيرات نوعية حصلت تركت علامات سياسية ونفسية عميقة في وعي الناس ووجدانهم وطرائق تفكيرها لا يمكن أن تمحى أو تزول.
لا يكاد التاريخ ينتهي في نقطة إلا ويبدأ مجدداً من نقطة أخرى تفتح الباب على صيرورة جديدة تستند إلى ما تراكم من دروس مستقاة من الانتكاسات الحاصلة ومن تنامي قدرة البشر على إدراك خصوصية العقبات التي تعيق دورهم في تقرير مصيرهم وصياغة مستقبلهم، وقد كرس الربيع العربي على رغم إخفاقاته دروساً لا تنسى، أولها حفز دور الإنسان المواطن وجعله أكثر إدراكاً لحقوقه وأكثر جرأة في التعبير عن رفضه للظلم الاجتماعي والقهر السياسي، وأهمها التأكيد على أن طريق العنف مهما بلغ في عنجهيته هو طريق قاصر ومكلف ولا أفق له سوى مراكمة المزيد من الضحايا والخراب، وأن الخيار الأمضى لخلاص الشعوب العربية ونهوضها يبدأ بتغليب الصراعات السياسية السلمية ونفض الرؤوس من أوهام تحقيق الغلبة بتوسل منطق العنف ولغة القوة.
أكرم البني