اندفاع النظام الإيراني في اليمن تحت وطأة نشوة ما حصّله في كل من سورية والعراق كان بمثابة غلطة الشاطر التي تُحسب عادة بألف، بخاصة أن هذا الاندفاع سوّق بتوجه مذهبي – امبراطوري عبر تصريحات العديد من المسؤولين، الذين لا يمكن النظام المذكور التنصّل من واقع وحقيقة قربهم من محيط دائرة القرار، وتأثيرهم فيها.
فاليمن بموقعه الأكثر من استراتيجي، وبحكم تماسه الجغرافي، وتداخله السكاني مع السعودية، كان الخط الأحمر جداً الذي تجاوزته إيران بعبثية غير معهودة، عبثية أثارت الكثير من التساؤل والاستغراب. وهو تجاوز يذكّر المرء بغزو صدام حسين الكويت بناء على اجتهادات لم تتضح معالمها بعد. وربما هي اجتهادات من الطبيعة ذاتها، أو هي توجهات عقائدية متسرّعة تفسّر ماهية الدور الإيراني في اليمن. لكن النتيجة المترتبة على الحالتين هي ذاتها وقد تجسّدت في حسم سعودي- خليجي- اقليمي، وكانت «عاصفة الحزم» بداية التحوّل في طبيعة ومستوى التعامل مع قضايا الإقليم الساخنة.
والحالة اليمنية لا تنفصل عن الحالة السورية، طالما أن السعودية هي الهدف الأساس في نهاية المطاف. وحين تكون السعودية بموقعها وامكاناتها العربية والإسلامية والدولية هي الهدف، فهذا فحواه أن المنطقة بأسرها كانت وما زالت مستهدفة.
أما مصائر الشعوب، ومستقبل أجيالها، وأهمية الاستقرار، وقضايا التنمية في المنطقة فكلها أمور لا تتوقف عندها الاستراتيجية الإيرانية التوسعية، وهي استراتيجية محرّكها نزوع عقائدي متكلّس، لا ينسجم مع طبيعة المنطقة واحتياجاتها، ويتعارض مع الفكر الشيعي الأصيل، بخاصة من جهة الانفتاح، والقدرة المتميّزة على الحوار العقلاني الذي يكون عادة أساساً لأي تواصل.
إن أهمية «عاصفة الحزم» تكمن في المقام الأول في كونها فتحت الآفاق أمام كيفية جديدة للتعامل مع قضايا المنطقة، وذلك في ظل غياب التفاهم الدولي، وعدم فاعلية الموقف الأميركي راهناً نتيجة حسابات الحملة الانتخابية وشعاراتها. وقد جاءت هذه العاصفة لتكون الرد الضروري على اللهاث الإيراني، المستفيد من مآلات المشروع الداعشي ومن مناخات الحملة الدولية على الإرهاب، من أجل استغلال الفرص، والتمدّد في مختلف الاتجاهات.
وبناء على ذلك، كانت الجهود الرامية الى تحقيق توافق اقليمي بين القوى المتضررة من المشروع الإيراني، وبصورة خاصة بين السعودية وتركيا، لا سيما أن الساحة السورية بالنسبة إلى تركيا هي على غاية الأهمية، وذلك تماماً مثل الساحة اليمنية بالنسبة إلى السعودية.
ويبدو أن الجهود المعنية حققت تقدّماً لافتاً، وإذا شهد التكامل بين مختلف المواقف الإقليمية المزيد من الانطلاق في المستقبل القريب، سيكون ذلك لمصلحة المنطقة بأسرها، ومن ضمنها إيران بطبيعة الحال. فإعادة التوازن إلى المنطقة، والاستعداد لمواجهة التحدّيات الخاصة بقضايا إيجاد فرص التعليم والعمل للأجيال الشابة، وتأمين الخدمات، بخاصة الصحي منها، للمواطنين، والإسهام في الحضارة الإنسانية وانجازاتها المادية والثقافية من موقع الفاعل المتفاعل المستفيد، وليس من موقع المنفعل المنقاد المنهوب، هي كلها أمور مطلوبة، ستنعكس عواقبها وتراكماتها بصورة ايجابية على واقع الجميع.
وما يشهده الشمال السوري من تقدم لافت لقوات المعارضة الميدانية، وذلك بالتوازي مع التقدم الذي يشهده الجنوب، وتراجع النظام في الكثير من المواقــع، وحالات التآكل ضمن مجموعة القرار المسؤولة بصورة مباشرة عن كل ما لحق ويلحق بسورية وشعبها من تدمير وقتل وتشريد وتجويع، إلى جانب الإنهيار المتسارع في قيمة الليــرة السورية، وهو انهيار يعكس الواقع الكارثي للاقـتـصاد الســوري بحيث لم يعد الدعم الايراني قادراً على التستّر عليه، أو تحمّل أعبـائـه، كل ذلك يــؤكد اننا أصبحنا أمام وضعية جديدة بعد ان استنفد النظام، وبالتنسيق والعمل المشترك مع راعيه الإيراني، كل أوراقه وأسلحته، بما في ذلك ورقة الإرهاب والسلاح الكيماوي، وضعية من أبرز قسماتها استعادة القوى الميدانية السورية المعارضة زمام المبادرة، وارتفاع معنوياتها بصورة لافتة مؤثرة.
وقد جاءت اللقاءات الأخيرة بين ممثلين عن الائتلاف، وآخرين عن الفصائل الميدانية الكبرى سواء في الشمال أم في الجنوب، لتبين بوضوح أن قواعد اللعبة قد تغيّرت، وبأن بوادر انهيار النظام قد بدأت تلوح في الأفق على رغم كل مزاعم التماسك والتظاهر بالقوة.
وبناء على ذلك، نرى أن دعوة المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا لقوى سورية عدة إلى جنيف، وذلك من أجل التباحث حول امكانية الوصول إلى قواسم مشتركة بخصوص امكانية حل سياسي واقعي، هي دعوة لم تعد تنسجم مع طبيعة المتغيّرات الأخيرة المتسارعة، الأمر الذي يستوجب إعادة النظر في طريقة إجراء المشاورات، ونوعية القوى المشاركة فيها.
وما يُستشف من الأوامر الملكية الأخيرة التي أصدرهـا خـادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز الخاصة بالتعيينات والتعديلات التي شملت ولي العهد، وولي ولي العهد، والوزراء ومسؤولي المجلس، هو وجود إرادة جادة لتسليم الملفات المفصلية إلى الطاقات الشبابية، وهي طاقات سيكون في مقدورها تفعيل وتنفيذ الاستراتيجية السعودية في ميدان ضرورة المحافظة على الأمن والاستقرار الاقليميين، وتحقيق التقدم الاقتصادي في مختلف الميادين عبر التعاون والتنسيق مع القوى الإقليمية الفاعلة، بخاصة تركيا. ولبلوغ النتائج المرجوة، هناك حاجة ملحة لتقدير تضحيات وتطلعات شعوب المنطقة بأسرها، والعمل من أجل تأمين حقوقها، واحترام خصوصياتها. وهذا أمر يستوجب التواصل الجاد والعمل المشتـرك مع القـوى الفـاعلة المـؤثـرة محلياً لمواجهة المشاريع التدميرية التي أنهكت البشر والشجر والحجر.
المنطقـــة تــعـيش أوضــاعــــاً استثنائية غير مسبوقة، أقرب ما تكون إلى أجواء حرب كونية بمعايير إقليمية، وفي مناخات كهذه لا تكون الاجراءات المعهودة منتجة، لذلك تكون الحاجة ماسة إلى نمط جديد من التفكير، قادر على اتخاذ القرارات المفصلية بنَفَس استراتيجي يرتقي إلى مستوى التحديات.
عبد الباسط سيدا