بخلاف الانتخابات البرلمانيّة والبلديّة السابقة التي شهدتها تركيا خلال العقد المنصرم، فالانتخابات البرلمانيّة، التي ستجرى في السابع من الشهر المقبل، هي الفرصة الأخيرة للمعارضة التركيّة، لما لها من أهميّة استراتيجيّة وخطورة بالغة في تحديد مصير هذا البلد، داخليّاً وإقليميّاً ودوليّاً، بحيث ستجيب نتائجها عن أهمّ مسألتين تواجهان تركيا: القضيّة الكرديّة والنظام الرئاسي.
وطبقاً لتفاصيل حالة الاستقطاب الحاد الذي ينزلق نحو العدوانيّة والتخوين في الكثير من الأحيان، أثناء التراشق الكلامي بين الأطراف المتصارعة، يمكن فرز القوى السياسيّة الى ثلاث جبهات:
الأولى: «حزب العدالة والتنمية» الإسلامي الحاكم منذ 2002، وما يتمتّع به من قاعدة شعبيّة كبيرة، وترسانة اقتصاديّة وإعلاميّة هائلة تستثمر كل مؤسسات الدولة لمصلحتها.
الثانية: معارضة قوميّة ويساريّة وإسلاميّة مقسّمة، يمكنها أن تشكل تحدّياً كبيراً في حال وحّدت صفوفها، واتفقت على برنامج انتخابي واحد، لكنها موزّعة على قوائم وتحالفات انتخابيّة عدّة. وأبرز أحزابها: «حزب الشعب الجمهوري» بزعامة كمال كليجدار أوغلو، و «حزب الحركة القوميّة» بزعامة دولت باخجلي، و «حزب السعادة» الإسلامي (الرفاه سابقاً) بزعامة رجائي كوتان، وحركة فتح الله غولن التي ستتوزّع أصواتها على هذه الأحزاب، مع أولويّة لـ «الشعب الجمهوري».
الثالثة: «حزب الشعوب الديموقراطيّة» (الواجهة السياسيّة للعمال الكردستاني بزعامة عبدالله أوجلان). هذا الحزب، طبقاً لاستطلاعات الرأي، يُرّجح أن يجتاز حاجز العشرة في المئة من إجمالي أصوات الناخبين الأتراك، ومضاعفة حضوره الحالي في البرلمان (30 مقعداً). والمقاعد التي سيحصل عليها، ستكون من حصة المقاعد التي يشغلها الآن «العدالة والتنمية»، لأن الأكراد كانوا يدخلون الانتخابات السابقة كمستقلّين، لا كحزب سياسي، فتذهب مقاعدهم للحزب الحاكم.
وازدياد حظوظ وشعبيّة «حزب الشعوب الديموقراطيّة»، يعود للأسباب التالية:
1- نجح الحزب (الكردي) في استقطاب الكثير من الأصوات التركيّة اليساريّة، عبر طرح خطاب سياسي جد معتدل، وصل إلى المطالبة بحقوق المثليين، والتراجع كثيراً عن الخطاب القومي الكردي، ما اعتبره كثيرون تنازلاً مفرطاً، بينما يعتبره آخرون حذاقة ونباهة سياسيّة من ضمن «الاختراق الناعم» لـ «الكردستاني»، الذي صار يتعاطى مع المسألة وفق مبدأ «وداوها بالتي كانت هي الداءُ» تيمّناً بسياسة القوة الناعمة لـ «العدالة والتنمية» والنجاحات التي حققتها تركيّاً وإقليميّاً.
2- علاقة «الكردستاني» بالنظام السوري، وتحييده الكرد السوريين عن الثورة السوريّة، ساهما في رفع نسبة التأييد له بين علويي تركيا، بخاصة الموالين منهم لنظام الأسد.
3- دخول «حزب الله» التركي الانتخابات، كمستقلين، سيفقد «العدالة والتنمية» جزءاً من الأصوات التي كان يحصل عليها من جمهور «حزب الله» هذا، بخاصة في المناطق الكرديّة، ما يصبّ في مصلحة «الكردستاني». كما أن مؤيدي غولن في المناطق الكرديّة سحبوا تفويضهم من «العدالة والتنمية» وسيمنحونه لـ «الكردستاني»، لا حبّاً به، بل كرهاً بأردوغان وحربه الشعواء عليهم!
غالب الظنّ أن «العدالة والتنمية» لن يحصل على الغالبيّة المريحة التي تخوّله تغيير النظام البرلماني إلى نظام رئاسي. ما سيجبره على الدخول في ائتلاف أو صفقة مع «الكردستاني» وممثليه في البرلمان. وهذه الصفقة، في جوهرها، هي ما تمّ الاتفاق عليه بين مدير المخابرات التركيّة هاكان فيدان وأوجلان، نتيجة مفاوضات الطرفين، وتقضي بإجراء تعديلات دستوريّة تمنح المناطق الكرديّة المزيد من الصلاحيات، مع عدم الاعتراف بالكرد في الدستور العتيد المرتقب، وإخراج اوجلان من سجن إيمرالي ووضعه تحت الإقامة الجبريّة، تمهيداً للإفراج عنه. وفي حال رفضت قيادة «الكردستاني» هذه التسوية – الصفقة، فستدخل في صدام مع اوجلان، قبل دخولها في صدام مع أنقرة. زد على ذلك أن الإفراج عن أوجلان صار في مقدّم أولويّات «الكردستاني»، في إطار مشروعه لحلّ القضيّة الكرديّة، بحيث يأتي إقرار الحقوق الكرديّة في الدستور في المرتبة الثانية أو الثالثة. وفي غالب الظنّ أن «الكردستاني»، سيوافق على هذه التسوية – الصفقة، على رغم إبدائه بعض التحفّظ والممانعة للاستهلاك المحلّي والبهرجة الإعلاميّة وحفظ ماء الوجه.
واللافت في الأمر أن أردوغان، قبيل إقدامه على إجراء أي إصلاح قانوني أثناء وجوده في رئاسة الوزارة، كان يخضعه للنقاش والتداول السياسي والإعلامي والاستفتاء الشعبي، حتى لو كانت العمليّة من قبيل البهرجة والديكور، إلاّ أن اوجلان، في مفاوضاته مع الحكومة قدّم التنازلات تلو الأخرى، من دون استشارة أحد، لا القوى السياسيّة الكرديّة الصغيرة، ولا النخب الثقافيّة الكرديّة، ولا حتى قيادة حزبه في جبال قنديل، بحيث تأتي تصريحاته وأقواله حول عملية التفاوض ونتائجها كأوامر غير قابلة للنقاش، لأن الزعيم يدرك ويعلم أكثر من الجميع وحريص أكثر منهم على القضيّة الكرديّة!
كذلك يتم تبرير تعاطي أوجلان الانفرادي، بالشعبيّة التي يحظى بها «الكردستاني» وزعيمه، وبكون اوجلان مناضلاً قضى عمره في الدفاع عن القضيّة الكرديّة وسجيناً منذ 15 سنة، وكل ذلك يخوّله تقديم التنازلات. وهذا علماً أن من الطبيعي جداً أن يتمّ إخضاع التسوية للاستفتاء الشعبي بين أكراد تركيا!؟ الحقّ أن نسخة من هذا التفرّد والتسلّط يمارسها «العدالة والتنمية» على معارضيه، بحجّة الشعبيّة والتفويض الشعبي الذي حصل عليه الحزب بفوزه في الانتخابات البرلمانيّة والمحليّة، وما حققه أردوغان من نهضة اقتصاديّة لتركيا!
والسؤال هنا: بعدما حقق أردوغان حلمه الأول بوصوله إلى رئاسة الجمهوريّة، هل سيحقق حلمه الثاني بتحويل النظام السياسي نظاماً رئاسياً، ويجمع في قبضته دستوريّاً صلاحيّات رئيس الحكومة أيضاً، وربما طالب بتغيير الدستور، وتمديد ولاية رئيس الجمهوريّة من ولايتين إلى الرئاسة مدى الحياة؟ ذلك لا يمكن اعتباره مبالغة وجنوحاً خياليّاً في التحليل السياسي لمآلات الراهن التركي. فما يجري الآن، كان يبدو ضرباً من المستحيل في السبعينات والثمانينات والتسعينات. لكن معطيات الواقع تعطي مؤشرات كافية إلى احتمال إعلان أردوغان تحويل تركيا من جمهوريّة علمانيّة إلى دولة سلطانيّة، حتى قبل عام 2023، ومرور مئة عام على تأسيس الجمهوريّة التركيّة.
هوشنك اوسي