الطائفية الاجتماعية والطائفية السياسية في سورية

تُعدُّ الحوارات حول الطائفية في سورية الأكثر حدّة وإثارة، وغالباً ما ينقسم المتحاورون بين من يتهم النظام بأنه طائفي «علوي» ومن ينفي التهمة من جهة، ومن جهة ثانية بين من يتهم الثورة بأنها طائفية «سُنية» ومن ينفي التهمة عنها. على صعيد آخر، المعركة أيضاً حامية الوطيس بين من يرى أن الطائفية واقع موجود يجب الحديث عنه وتفكيكه، ومن ينكر وجودها تماماً متهماً كل من يحاول إثارتها ونقاشها بالطائفية.

بالطبع، لا يمكننا تعداد كل الآراء حول مسألة الطائفية في سورية، فهي من الصعوبة بحيث لا تُحصى. فصفحات الشبكة العنكبوتية بخصوص الطائفية، والمقالات التي نُشرت عنها في الصحف والمجلات، والحوارات حولها، تُعدُّ بالمئات وربما أكثر. وهذا إن دلَّ على شيء، فعلى أهميتها وحساسيتها وحضورها بقوة في الأذهان، حتى أصبحت الشغل الشاغل لمثقفين وباحثين كثيرين.

المُهتمُّ بهذا الموضوع يمكنه أن يطرح سؤالين على نفسه: هل يوجد، بعد كل هذا الجدل والحوارات والمماحكات، تعريفٌ محددٌ ودقيق لمصطلح الطائفية؟ وهل جميع المشاركين في النقاشات بمن فيهم الباحثون الأكاديميون يتحدثون عن الظاهرة نفسها؟

المُلاحظ أنه لا يوجد تعريفٌ دقيقٌ حتى الآن، وأن هناك خلطاً بين مفهومي الطائفة والطائفية من جهة، وبين مفهوم الطائفية الاجتماعية ومفهوم الطائفية السياسية من جهة أخرى. في هذا الخلط، ربما كمن الخلاف الجوهري بين من يُنكر تماماً وجود هذه الظاهرة ومن يعتبرها واقعاً يجب تناوله.

إذا اعتبرنا أن الطائفية السياسية هي التعبيرات السياسية للدين والتدين، أي الوجود السياسي للطوائف وفق تعريف برهان غليون في كتابه «مسألة الطائفية ومشكلة الأقليات»، فإن هذه الطائفية ليست مصطنعة ولا آتية من عدم، وهي حتماً ترتكز على أرضية ثقافية واجتماعية ونفسية يُسمّيها عزمي بشارة في أحد مقالاته «وعياً طائفياً اجتماعياً يومياً»، وهو ما نقصده عند استخدام مصطلح الطائفية الاجتماعية أو الطائفية كظاهرة نفسية اجتماعية.

الطائفية الاجتماعية أحد أهم أشكال التعصب ويجب تمييزها عن مفهوم الطائفة. فالطائفة كينونة اجتماعية لها حضورها الاجتماعي وتؤدي أدواراً ووظائف اجتماعية سابقة لتكوينات الدولة المعاصرة. الانتماء (وليس الشعور بالانتماء) لطائفة حالة موضوعية يفرضها واقع الحال، كأن يولد الإنسان في عائلة سُنية أو شيعية أو مسيحية… إلخ. أما الطائفية فشـعور قوي بالانتماء لطائفة ما، و/ أو الرفض لطائفة معينة، ترافقه نزعة تعصبيّة تجعل الفرد يقدّم ولاءه الجزئي أو الكلي للقيم والتصورات الطائفية. وبناءً عليه يمكننا تعريف الطائفية الاجتماعية إما كأحد أشكال التصلّب الفكري أو كحكمٍ سلبي مسبق تجاه طائفة معينة.

إذاً، الطائفية الاجتماعية اتجاهٌ (موقف) نفسيٌّ له ثلاثة مكونات: أولاً، المعرفي، ويتمثل في المعتقدات والأفكار والتصورات السلبية للأشخاص الطائفيين عن طائفة معينة، وهذا ما يُعرف بالقوالب النمطية. ثانياً، الانفعالي أو العاطفي، كمشاعر الكره والحب والحقد والخوف… إلخ. وثالثاً، السلوكيّ، حيث تتم ترجمة الأفكار النمطية والمشاعر السلبية سلوكاً طائفياً قابلاً للتصنيف في خمسة أنواع تتدرج في الشدّة من الأدنى إلى الأعلى، على النحو التالي:

أولاً، التعبير اللفظي وهو أدنى الدرجات، حيث يقتصر السلوك الطائفي على التعبير اللغوي (آراء سلبية، نكات طائفية، أحاديث كراهية… إلخ). في هذا المستوى تبقى الطائفية في حدودها الدنيا وغالباً ما يتم التعبير عنها مع الأصدقاء والمقربين والعائلة. ثانياً، التجنّب، حيث ينسحب الفرد أو يتهرّب في شكل مباشر أو غير مباشر من أيّ موقف يتطلب التعامل مع أعضاء الطائفة موضوع الكراهية. ثالثاً، الإقصاء، وهو أعلى بدرجة من التجنب، حيث لا يقتصر الأمر فقط على التهرب من المواقف المؤدية إلى الاحتكاك بأعضاء الطائفة المكروهة، وإنما أيضاً إلى منعهم من الحصول على بعض الحقوق (العمل، السكن، المشاركة في الحياة السياسية… إلخ). رابعاً، العدوان الجسدي، حيث تؤدي الطائفية إلى السلوك العنفي الجسدي تجاه أفراد الطائفة موضوع الكراهية (ضرب، تعذيب، سرقة، نهب، تدمير بيوت، قتل… إلخ). خامساً، الإبادة، وهي أعلى درجات الطائفية وتعتبر مرحلة نهائية في الكراهية والعدوان حيث يأخذ التعصب شكل مجازر جماعية (Génocide) هدفها الإفناء المُمَنهج بالكامل للطائفة موضوع التعصب.

فهل يمكننا تالياً التحدث باللغة نفسها، والتقريب بين وجهات النظر، خاصةً بين من يُنكرون تماماً وجود هذه الظاهرة، وهم على الأغلب يتحدثون عن الطائفية السياسية، ومن يعتبرونها واقعاً موجوداً يجب الحديث عنه، وهم ربما كانوا بمعظمهم يعنون الطائفية الاجتماعية، أم أن هذا الخطاب الرومنسي القائم على إنكار وجود هذه الظاهرة بجوانبها السياسية والاجتماعية معاً له جذور أيديولوجية بحتة؟

للأسف، الآراء حول مسألة الطائفية تخضع في كثير من الأحيان إلى تجاذبات أيديولوجية وسياسية لا تترك مجالاً للتحليل العلمي لظاهرة تُعتبر من أخطر الظواهر التي تعاني منها مجتمعات الشرق. خطأ إنكارها في مجتمعنا، الذي يرتكبه بعض المثقفين وبعض الأكاديميين، لا يقل فداحةً عن طائفية الطائفيين أنفسهم. فبهروبهم من مواجهتها وتحليلها بهدوءٍ وجرأة عِلمية، وباتهامهم كل من يحاول تفكيكها وعلاجها بالطائفية، يكونون كالطبيب الذي يقول للمريض وهو على سرير الموت: أنت معافى ولا تعاني من أيّ شيء.

فبدل قضاء الوقت على وسادة الرومانسيات الوطنية وإظهار الطائفية وكأنها طارئة في سورية، بل كأنها ولدت مع الثورة بسبب أياد أجنبية، والوقوع من جديد في مطب «نظرية المؤامرة»، لنعترف بوجود هذه الظاهرة في مجتمعنا وندرسها علمياً، ولنعمل على شرحها وتفكيكها ونُبيّن ارتباطها وتشابكها مع العوامل السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية والنفسية، لا لاتهام وتجريم تلك الطائفة أو تلك، فالتوصيف العلمي للواقع لا يعني أبداً التحيّز له، وإنما اقتراح حلول علمية وعملية.

عزام امين

Comments (0)
Add Comment