معركة تل أبيض

■ في أقل من أسبوع تمكنت قوات كردية – عربية مشتركة من تحرير مدينة تل أبيض الحدودية من سيطرة «الدولة الإسلامية» التي دامت نحو عام ونصف العام، وخرج المعبر الحدودي (تل أبيض – أقجة قلعة) من يد التنظيم الذي كان يستخدمه بوابةً لنقل الرجال والسلاح في اتجاه، ولنقل النفط وجرحى التنظيم (إلى المستشفيات التركية) في الاتجاه الآخر.
هذه هي الخلاصة العسكرية للمعركة. أما خلاصتها السياسية فيمكن استنتاجها من تصريح رئيس الجمهورية التركية رجب طيب أردوغان الذي قال إن «طيران التحالف يقصف العرب والتركمان ويرغمهم على النزوح، ليحِلَّ محلهم مقاتلي pyd وpkk».
في جينات الدولة التركية خوف أزلي من نشوء دولة كردية مستقلة تعيد تقسيم تركيا بعد تفكك الامبراطورية العثمانية. وسواء كان القوميون المتشددون يحكمون تركيا أو الإسلاميون المعتدلون أو العلمانيون أو الجيش، يبقى هذا الخوف هو الرائز الأهم لرسم السياسة الخارجية التركية تجاه جوارها الاقليمي. الخطر الإرهابي الجهادي المتمثل في «داعش» أو النصرة أو أخواتهما هو، في نظر الدولة التركية، خطر طارئ مؤقت، مقابل الخطر الدائم الذي يشكله الكرد. هذا الرائز «الغريزي» هو الذي جعل أردوغان وأركان حكمه يقفون في الجانب الخاطئ من الصراع الكردي – الداعشي، فيشجعون الأخير ويدعمونه ويقدمون له التسهيلات اللوجستية لتحجيم القوة الكردية الممتدة على الجانب الآخر من الحدود مع سوريا.
لكن للمسألة بعدها الآخر المتعلق بالثورة السورية ومآلاتها في السنوات الأربع الأخيرة، حيث غلب على فصائلها المسلحة الفاعلة الطابع الإسلامي الجهادي بصورة متدرجة، إلى درجة تحولت معها ثورة الحرية والكرامة إلى «ثورة إسلامية»، وبخاصة في الشمال والشمال الشرقي. بعد أكثر من سنتين من هذا التحول الكارثي لم يعد ينفع ذلك التفسير الصحيح لهذه الظاهرة بأنها نتاج طبيعي لوحشية النظام في مواجهة الثورة الشعبية، ولا طبعاً التفسير التآمري القائل إن المنظمات الجهادية (وخاصةً داعش) هي صنيعة النظام ودمية بيده للقضاء على الثورة. فالتحول المذكور حدث، بصرف النظر عن الجهة المسؤولة عنه (بطش النظام وأو السلبية الأمريكية، أو القوى الاقليمية المنخرطة في الصراع السوري). وتقع مسؤولية مواجهة هذا الخطر الجديد على ثوار سوريا الذين يواجهون، في الوقت نفسه، قوات الأسد وحلفائه اللبنانيين والعراقيين والأفغان وغيرهم. الواقع الأكثر مأساوية هو أن من وصفناهم بـ»ثوار سوريا» ليسوا أكثر من بقايا متفرقة من المجموعات الصغيرة التي تعلن انتماءها إلى «جيش سوري حر» لم يعد موجوداً على وجه التقريب. بدلاً من ذلك يدور الحديث عن «إسلاميين معتدلين» لا يوجد إجماع على تحديدهم. ففي حين يخرج البعض جبهة النصرة من هذا التصنيف، مكتفين بتشكيلات أبعد ما تكون عن الاعتدال كحال أحرار الشام وجيش الإسلام وما لف لفهما من المنظمات الجهادية، يعتبر آخرون النصرة جزءًا من قوى الثورة.
هل أراد النظام هذا التحول ونجح في تحقيقه؟ نعم. هل يستفيد النظام من هذا التحول إذا كان قادراً، في مساره الانحداري نحو السقوط المحتم، على الاستفادة من أي شيء؟ نعم، وإن كان فقط بكسب مزيد من الوقت لتدمير ما لم يكفه الوقت لتدميره من سوريا وطناً ونسيجاً اجتماعياً وبشراً وحجراً. سوف يواصل نظام الكيماوي والبراميل البدائية القاتلة مهمته المقدسة هذه حتى اللحظة الأخيرة قبل سقوطه. وأي تطور يؤخر هذه اللحظة ويمنحه مزيداً من الوقت لتنفيذ المهمة، هو تطور محمود من وجهة نظره، حتى لو كان ارتكاب مجازر بحق قاعدته الاجتماعية كما حدث في اشتبرق العلوية، أو بحق أقليات أخرى كما حدث في قرية قلب لوزة الدرزية في جبل الزاوية، أو في قرى قريبة من مدينة سلمية الإسماعيلية على يد داعش قبل أشهر.
طيران التحالف الدولي يضرب داعش، والفصائل الإسلامية «المعتدلة» تقاتل داعش، وجبهة النصرة تقاتل داعش، والنظام يقاتل داعش، في دير الزور على الأقل. والعالم كله موحد اليوم في أجندة سياسية – أمنية في مواجهة داعش. الطرف الوحيد الذي ألحق هزائم جدية بداعش هو قوات الحماية الشعبية التابعة للفرع السوري لحزب العمال الكردستاني، مدعومة ببعض الكتائب الصغيرة من الجيش الحر (العربي ـ السني). وهو الطرف المتهم اليوم بارتكاب تطهير عرقي بحق العرب السنة والتركمان في تل أبيض ومحيطها. السبب المرجح لهذا الاتهام هو أن سيطرة القوات الكردية على المدينة الحدودية سيؤدي إلى وصل الانقطاع الجغرافي بين «كانتوني الجزيرة وكوباني» المحكومين من قبل «الإدارة الذاتية» لحزب أوجالان السوري.
بعيداً عن البيئة المسمومة للفيسبوك السوري (العربي والكردي) الذي لا يكف عن التحريض على الكراهية القومية المتبادلة، لا نملك معلومات من جهة محايدة حول حدوث تطهير عرقي بحق العرب والتركمان. أما تصريح أردوغان فهو يصب في الخانة الفيسبوكية نفسها الموصوفة أعلاه. يبقى البيان المشترك الصادر عن «كبرى فصائل المعارضة السورية المسلحة» (الجبهة الشامية، وحركة أحرار الشام الإسلامية، وجيش الإسلام، وجيش المجاهدين) الذي اتهم وحدات حماية الشعب بممارسة التطهير العرقي، مقابل نفي الحزب الأوجالاني السوري لهذه الاتهامات.
ويضيف بيان «كبرى الفصائل» المذكور أعلاه أن «هذه الحملة تأتي استكمالاً لمخطط تقسيم تعمل عليه أطراف محددة، على رأسها حزب العمال الكردستاني، بالتعاون مع أطراف إقليمية ودولية».
لا نعرف من هي الأطراف الاقليمية والدولية التي تعمل على تقسيم سوريا. أما حزب العمال الكردستاني الذي يضعه البيان «على رأس» قوى التقسيم، فقد تخلى، منذ اعتقال عبد الله أوجالان في العام 1999، عن هدف إقامة الدولة الكردية. وقبل ذلك كان أوجالان تحدث عن عدم وجود جزء من كردستان داخل الحدود السورية، وأن كرد سوريا نزحوا من موطنهم الأصلي في تركيا على فترات، الأمر الذي أكده أيضاً رئيس الفرع السوري صالح مسلم في أكثر من مناسبة. ومشروع الإدارة الذاتية الذي فرضه الحزب كأمر واقع لا يحمل أفقاً انفصالياً كما يؤكد في كل مناسبة. ويتعرض الحزب الأوجالاني السوري إلى انتقادات قاسية، بسبب رؤيته هذه، من الأحزاب والأوساط الكردية الأخرى في سوريا التي تطالب بنظام فيدرالي على غرار الاقليم الفيدرالي الكردستاني في شمال العراق.
في ظل هذه المعطيات لا يبقى من معنى للاتهامات الواردة في بيان «كبرى الفصائل» سوى التناغم الذي ألفناه منها مع الموقف التركي الرسمي الذي تلقى ضربتين قاصمتين في كوباني وتل أبيض، وقبلهما في رأس العين (2013). السياسة التركية في سوريا القائمة على غريزة الخوف من قيامة كردية محتملة هي التي تلقت هزائم داعش كما لو كانت هزيمتها الخاصة، ودفعت الثمن غالياً في الانتخابات العامة في 7 حزيران.
يبقى أن هناك أخبارا متواترة حول عمليات انتقامية ترتكبها قوات حماية الشعب ضد عرب من المنطقة تتهمهم بالعمل مع داعش إبان احتلاله لتل أبيض، من قتل وتهجير وتهديدات متنوعة. في الفوضى القائمة اليوم لا أسهل من اتهام العرب السنة بموالاة داعش، ولا أسهل من اتهام الكرد بأنهم pyd وعملاء للنظام.
بكر صدقي

Comments (0)
Add Comment