قبل كل كلام، يجب التأكيد على أن الهجمة الداعشية الهمجية على جنوب كوردستان وغربها لم تكن مجرد (غزوة) من غزوات متطرفين عقائديين عاملين على “تطبيق الشريعة بحد السيف!”، وإنما جاءت في ظرف زمني محدد وبأهداف سياسية محددة أيضاً ومدعومةً من جهاتٍ إقليمية ولربما دولية بهدف “وقف الكورد عند حدهم!!!” لأن زعيمهم القومي، رئيس إقليم كوردستان، السيد مسعود البارزاني، قد لوح بعرضه مسألة استقلال جنوب كوردستان عن العراق على شعبه ليقرر بنفسه حسب القانون الدولي فيما إذا كان يريد البقاء “عراقيا أم “كوردستانياً حراً ومستقلاً”. وإلى جانب ذلك، فإن الكورد الذين كانوا مهملين دولياً وضعفاء اقليمياً وليس في أياديهم سلاح خطير وقليل من المال، قد صاروا في أقل من عقدين من الزمان أصحاب مطارات دولية، ومدنٍ عامرة، وإدارة عاملة، وقواتٍ مدربةٍ وهائلة، وأموالٍ يستطيعون بها القيام بكثيرٍ مما يسعون إليه، عن طريق بيع البترول بأنفسهم، اضافةً إلى أنهم يبدون متحدين غير متناحرين كما في الماضي، أي أنهم قد “أثبتوا وجودهم” على الساحتين الإقليمية والدولية، وصار لهم حلفاء وأصدقاء، بعد أن كانوا قروناً من الدهر بلا أصدقاء سوى الجبال.
إن أي قراءةٍ خارج هذا الإطار الزمني والموضوعي ناقصة ولا تفسر الأحداث الجسام التي شهدتها الساحة العراقية، منها حجز الأموال العائدة لإقليم كوردستان من قبل الحكومة المركزية في بغداد سنواتٍ عديدة، إهمال تحذيرات السيد مسعود البارزاني من قبل المالكي نفسه بصدد تنامي نفوذ الإرهابيين في محافظة الموصل، ومن ثم إفساح المجال لهم بالسيطرة على المحافظة والسلاح الحديث والكثير للفرق العسكرية المنتشرة فيها دون قتال واغتنام أموالٍ هائلة من بنوك مدينة الموصل، بشكل يدعو للاستغراب والتساؤل عما إذا كانت حكومة المالكي قد خططت لشيءٍ ما من وراء ذلك الانسحاب العسكري الخطير وتعريض حياة الألوف من العسكريين العراقيين إلى مجازر رهيبة، ومنها أيضاً هجوم الإرهابيين الوحشي على شعبنا الكوردي في شنكال وسواها في حملةٍ مسعورةٍ على اليزيديين والمسيحيين والكاكائيين، بهدف تصفيتهم كلياً كأقلياتٍ دينيةٍ تعيش بين الكورد والعرب منذ قرونٍ طويلةٍ من الزمن. ومن ثم انتقال الإرهابيين إلى الهجوم الشامل في جبهةٍ أخرى على شعبنا الكوردي في منطقة كوباني في غرب كوردستان وتشريد الكورد بشكلٍ شامل من مناطق منبج والباب وأطراف حلب والحسكة.
كأن العراق وسوريا اللذان تشكلا كدولتين نتيجة اتفاقية سايكس – بيكو الإستعمارية في عام 1916 قد صارا قدراً محتوماً للشعب الكوردي الذي تريد بعض القوميات الأخرى صهره وإنهاء وجوده القومي بينها، وفشلت في ذلك عقوداً طويلة من المحاولات المستديمة لمنع اللغة الكوردية ولإرغام شعبنا على الخضوع لها بقوة السلاح وبالمجازر والتهجير القسري وبمختلف صنوف الإرهاب والاضطهاد والحرمان والإقصاء وتشويه التاريخ الإنساني للمنطقة. وفي حال تمرّد الكورد على هذا الوضع غير الإنساني وغير الأخلاقي فإن الحرب عليهم وسلبهم ممتلكاتهم وتشريدهم، بل حتى اختطاف حرائرهم وبيعها في أسواق النخاسة مشروع حسب الدين والقانون الدولي، إلاً أن الكورد مصممون على تغيير هذا الواقع الذي لم يجدوا فيه عدالةً وضاعت بسببه حقوقهم وأهدرت كرامتهم، ولا يمكنهم القبول باستمرار هذه الظروف إلى الأبد، لذا فإنهم ساعون إلى بناء جبهتهم القومية – الوطنية التي ستمنحهم مزيداً من القوة والتلاحم والوقوف معاً في وجه هذا العدوان المستمر، الذي لا يشكل الإرهاب الداعشي سوى جزءٍ ضئيلٍ منه. وإن ذهاب أعدادٍ – ولو ضئيلة – من البيشمركه من جنوب كوردستان إلى مدينة كوباني في غرب كوردستان والاستقبال اللامحدود في بهجته من قبل جماهير شعبنا الكوردي في شمال كوردستان، وكذلك مشاركة قواتٍ من أجزاء كوردستان المختلفة في الدفاع عن شنكال وكركوك وسواهما، تأكيد عملي على هذا التوجه الكوردي لمزيدٍ من التضامن القومي في هذه الظروف التي تتطلب أكثر من الحشد والتعاون في ساحات القتال.
ولذا، فإن من الضروري دراسة كل المواقف والمبادرات والسياسات الإقليمية والدولية في المنطقة دراسةً متأنية ودقيقة من قبل المفكرين والإخصائيين والخبراء من مختلف المجالات وتقديم النصح والإرشاد للسياسيين الكورد، وقبل كل شيء يجب توحيد الطاقات الوطنية، المالية والعسكرية والسياسية، والرموز القومية، والتوجه المرحلي العام لأمتنا، بما يعزز قدراتنا على الساحات المختلفة، ويظهرنا كأمةٍ واحدة ذات طموحٍ مشترك.
ومع الأسف، هناك من يعمل على استثمار هذه الأحداث والظروف لجني مكاسب حزبية ضيقة، ومن هو راكب في قارب دولة إقليمية معينة ظناً منه أنها لن تتخلى عنه إلى الأبد، ومنهم ليس لديه شعور كوردستاني مطلقاً، وإنما يفكر حزبياً ومحلياً وكأنه لا يزال يعيش في زمن التناحر العشائري، بل منهم من أعمته أيديولوجيته عن رؤية الواقع الذي يعيشه عالمنا الحديث، فلا يرى سوى لونه المحبوب من دون سائر الألوان الأخرى. وهذا لا يساعد في بناء القوة الوطنية الرادعة لكل عدوانٍ مستقبلي.
إن الكورد في معركة البقاء وإثبات الوجود، وأهمية وحدة وتقوية بيشمركتهم وسلاحهم وسياستهم وقيادتهم لا تخفى على أحد، ولا يحق لأي منهم أن يتساهل في هكذا موضوع هام لأن حياة شعبنا وممتلكاته وشرف أبنائه وبناته و كرامتهم مرتبطة بمدى قدرتهم على تحمّل مسؤولياتهم التاريخية الحاضرة ومدى استعدادهم للتصدي لاعتداءات مستقبلية تهدد بقاءهم ووجودهم، كما كان الوضع في الماضي دائماً.
جان كرد