تتباين ردود أفعال السوريين ومواقفهم من توقيع الاتفاق النووي بين الدول الكبرى وإيران، نتيجة تباين اصطفافاتهم واختلاف قراءاتهم وحساباتهم حول تأثيره المرتقب في مجرى الصراع الدموي المحتدم في البلاد، وهم المدركون أهمية الساحة السورية عند طهران وما تقدّمه من دعم متعدّد الوجوه لتمكين السلطة ومدّها بأسباب الصمود.
بداية، من البديهي أن يهلّل أنصار النظام لهذا الاتفاق باعتباره منعطفاً ونصراً تاريخيَّين، من دون اكتراث بحجم التنازلات التي قدّمتها إيران ورضوخها لغالبية اشتراطات الغرب، فما يهمّهم المنافع الناجمة عن عودة حليفهم إلى الأسرة الدولية، مرة كضربة سياسية قوية توجّه الى أعدائهم في الداخل والخارج، عنوانها اعتراف دولي بنفوذ طهران الإقليمي وبدور لها أكثر حضوراً وفاعلية في معالجة أزمات المنطقة، ومرة ثانية لكونها تفتح موضوعياً نافذة طال انتظارها، للتخفيف من عزلة سورية والحصار المفروض عليها، ومرة ثالثة لأن تحرير أرصدة إيران ورفع العقوبات عنها، يمنحانها قدرة أكبر على دعم النظام اقتصادياً وعسكرياً، ولا بأس في الطريق من تجيير الحدث كثمرة من ثمار نهج الممانعة الذي يجبر الغرب دائماً على التسليم والخنوع!
في المقابل، تتنوع مواقف المعارضة السورية التي تبدو في غالبيتها خاسرة من إبرام الاتفاق، وإذ لا تعيره الجماعات الجهادية أي اهتمام طالما أن الجميع أعداؤها، سواء اختلفوا أو اتفقوا، فثمة معارضون دانوا الاتفاق بصفته محاولة غربية لتقوية حليف للنظام بات يمتلك تأثيراً نافذاً في الوضع السوري، الأمر الذي قد يطيل عمر الصراع الدموي ويحبط الخطوات المترددة أصلاً للتقدّم في مسار الحل السياسي، مفضياً إلى تعزيز تشدّد النظام وإصراره على الحسم العسكري، الأمر الذي بدأت نذره تتضح من خلال توسيع عملياته الحربية ضد الوجود المسلّح في أرياف دمشق وحلب والحسكة وتدمر، فضلاً عن تقوية أدوار حلفائه اللبنانيين والعراقيين، واستجرار أرتال المتطوعين من إيران وأفغانستان والعراق ولبنان، للقتال في سورية.
وطالما أن الإرادة الدولية لا تزال غائبة عن المشهد السوري، يرى هؤلاء أن مكاسب الاتفاق الاقتصادية لن تذهب لمعالجة أزمات إيران الداخلية، بل ستقوّي الغطرسة والنزعة الإمبراطورية، وتشجّع طهران على تعزيز نهجها التدخّلي في الملفات الساخنة وبؤر التوتر، وعلى توسّل لغة القوة والعنف لتحصين نفوذها الإقليمي وتوسيعه، ودليلهم أن الموارد الإيرانية ومنذ انتصار الثورة الإسلامية، لم تستخدم لمعالجة أزمات الداخل، بل لتمويل مشاريع تصدير هذه الثورة وتوسيع النفوذ الخارجي، من دون اكتراث بأن منح تلك الجماعات الجهادية المتطرفة فرصة ثمينة لمزيد من التعبئة المذهبية وتسعير العنف، وفتح الباب على مصراعيه أمام الفوضى وانفلات صراعات متخلّفة ومدمّرة في غير مكان.
وفي حين يخلص معارضون ومثقفون سوريون الى نتائج مغايرة، فهم يستبعدون توظيف مكاسب الاتفاق الاقتصادية فوراً في حلبات الصراع والتوتر، بخاصة أن إيران تحتاج إلى ما يفوق بكثير الأموال المجمدة لمعالجة بعض أزماتها ومشكلاتها المزمنة، ويرجح هؤلاء أن تنعكس التهدئة والمصالحة مع الغرب، تهدئةً ومصالحةً مع دول الإقليم، ما يفضي إلى انسحاب تدريجي لطهران من دور عسكري مباشر لعبته نتيجة ضعف الحلفاء كما حالتي العراق وسورية، وتالياً إلى إبعاد شبح حروب إضافية عن منطقة تفيض بنزاعات قديمة دفعت الشعوب ثمنها دماً وفشلاً تنموياً، والدليل عند بعضهم هو فكرة تقول إن تخصيب اليورانيوم والتدخل الإقليمي كانا عند القيادة الإيرانية مجرد ورقتي ضغط لانتزاع اعتراف وشراكة دوليين، وبخاصة مع الولايات المتحدة، ما يعني أن ما تحقّق لا يقتصر على البرنامج النووي، بل يرجح أنه شمل ملفات شائكة تهم الجميع، في سورية ولبنان والعراق واليمن، تم التباحث في شأنها تحت الطاولة وبناء أفكار مشتركة حولها، قد تكون إحداها دوراً إيرانياً ضاغطاً على النظام السوري لحضّه على المشاركة جدياً في الحل السياسي، بما في ذلك التشجيع على تبلور قوى من داخل التركيبة السلطوية تزداد قناعة بضرورة المعالجة السياسية، وتضع على عاتقها إنقاذ ما يمكن إنقاذه!.
أما الدليل عند آخرين، فهو الموقف المعلن الرافض للاتفاق من أوساط النخبة المحافظة ومتشدّدي الحرس الثوري، ثم ما يشي بخلافات جدية حول المستقبل بدأت تظهر على السطح بين الإصلاحيين والمتشددين، ويعتقد أصحاب هذا الرأي أن الصراع بين الإصلاحيين والمحافظين في إيران هو حقيقة وليس خدعة، وأن طي الملف النووي يعطي دفعة قوية للتيار الإصلاحي الذي يغلب وسائل النفوذ السياسي والاقتصادي على أساليب السيطرة العسكرية، بخاصة أن ثمة شارعاً عريضاً يقف معه، والقصد أن الشعب سيغدو بعد الاتفاق وبعد انهيار أسطورة الشيطان الأكبر، رقماً قوياً في المعادلة، إن في مطالبته بتحسين شروط عيشه، وإن في مناهضة حروب الاستنزاف وأي تبديد لمكاسب الانفتاح على مغامرات خارجية! فكيف الحال مع تراجع زخم المتشدّدين وانحسار سطوتهم، وقد وصلوا إلى طريق مسدودة بعد منحهم فرصاً عديدة وهدروا ثروات هائلة في مطاردة حلمهم التوسعي ومشروع نووي خاسر؟! وكيف الحال مع الدور الرادع الذي لعبته عاصفة الحزم في مواجهة التمدّد الإيراني، منذرة بحجم الأخطار التي ستنجم عن اللعب بنار توسيع النفوذ والهيمنة؟! وكيف الحال ولا يزال درس الاتحاد السوفياتي ماثلاً في الأذهان، وقد انحسر دوره الخارجي وانكمش دعمه لما يسمى حركات التحرر الوطني، بعد توقيع اتفاق الحدّ من الأسلحة الاستراتيجية؟!
أخيراً، وبعيداً من مواقف السلطة والمعارضة، تلمس لدى غالبية السوريين إحساساً عميقاً بالألم والمرارة حين تنجح إيران في فك الحصار والانفتاح على العالم، وتقدم تنازلات مؤلمة تمهيداً لمعالجة أزماتها وتحسين حياة شعبها، بينما لا تزال أساليب العنف والقهر والتدمير تفتك بمقدراتهم ومقومات عيشهم وتعايشهم، ليغدو وطنهم أشبه بخنادق وميادين قتال لتصفية الحسابات، ربما حتى آخر سوري!.
اكرم البني