مأمون فندي
هل الانتقال إلى الديمقراطية في مجتمعاتنا العربية، التي يسيطر عليها الشكل لا المضمون، فعلا وهم؟ وما هي الشروط التي يجب توافرها في مجتمع ما للانتقال إلى الديمقراطية؟ بالديمقراطية هنا لا أعني الشكل التنظيمي الذي هو خطوة لاحقة أو ربما متأخرة جدا في البناء الديمقراطي. فتعريفا، الديمقراطية تعني تمكن المواطنين من كل المنظمات الاجتماعية وقدرتهم على أن يحاسبوا من يتخذون القرارات التي تؤثر في حياتهم، وهذا يتطلب دستورا حاكما يطبق، وقانونا وقضاء لا توجد به ثغرات، وشفافية، وقدرة الناس على تغيير من يديرون المنظمات الاجتماعية عندما يفشلون. وهنا لا أعني بالمنظمات الاجتماعية البرلمان والمؤسسات الرسمية فقط، بل كل منظمات المجتمع من القاع إلى القمة. ومع ذلك يبقى هذا السؤال تاليا في استيفاء الشروط المنتجة لمجتمع ديمقراطي.
حتى اختيار البرلمان ومن يمثل الشعب ليس طابورا شكليا يقف فيه الناس في طريقهم إلى الصندوق (اللي رايح) بمعنى أن يختار الناس من سيجلسون في مقاعد البرلمان، بل أساسي جدا تلك التشريعات التي سيقوم بها النواب لتحسين حياة من انتخبوهم (اللي جاي). أي أن شارع الديمقراطية (رايح جاي) وليس في اتجاه واحد فقط. تجاربنا العربية هي انبهار بشكل طوابير من البشر تقف بطول الشارع تصورها الكاميرات وهي تختار أناسا يجلسون على المقاعد ثم تنقطع الصلة، سواء كان المنتخب رئيسا أو نائبا عن الشعب (طريق رايح بس).
ما أود قوله هو أن الصندوق له شروط كما أن الصندوق هو العتبة الأخيرة في سلم الديمقراطية. وسآتي على تفسير هذا لاحقا. الصندوق رمزية لفكرتين: الأولى أن الفرد هو أساس الاختيار، الفرد الذي يتحمل تبعات اختياره. والثانية هي الحرية المطلقة في الاختيار لا تبعية لعقلية قطيع، سواء كانت أسرة أو شلة أو قبيلة أو أي تجمع اجتماعي آخر، أي أن الفرد الحر حرية مطلقة هو اللبنة الأولى في البناء الديمقراطي.
طبعا في عالمنا العربي عندما أقول إن الديمقراطية وهم، فهذا يلقى هوى عند من يرفضون ديمقراطية الدول المتقدمة ويرمونها بأنها أكذوبة وعينهم دائما على الولايات المتحدة الأميركية، وهذا جور وتضليل؛ حيث تبقى الديمقراطيات من الهند إلى اليابان إلى ألمانيا وبعض دول أميركا اللاتينية تجارب ناجحة في مشاركة الشعوب في الحكم، فالديمقراطية ليست حكرا على أميركا وغرب أوروبا.
مرة أخرى، الصندوق والانتخابات هي السلمة الأخيرة في السلم الديمقراطي وقبلها مجموعة شروط يجب أن تتوفر في المجتمعات. هذه الشروط تتمثل أولا بالقبول بالفرد الحر القادر على الاختيار في مجتمع ليست فيه أي ضغوط على حرية الفرد. ففي المجتمعات الغربية مثلا يمكن أن يكون في داخل البيت الواحد، كما في أميركا وبريطانيا، من يصوت للمحافظين، ومنهم من يصوت للديمقراطيين أو الأحزاب الليبرالية، ولا يجرؤ أحد في العائلة على إجبار ابنه أو بنته على تبني اختياره. طبعا هناك عائلات لها تاريخ ليبرالي أو محافظ يحكم توجهاتها، ومع ذلك تبقى هناك حالات الاختيار الفردي واضحة لا جبر فيها.
إن لم يكن في المجتمع هذا السياق الحر الذي يجعل الاختيار الفردي القائم على الحرية مقدسا، فالحديث عن فكر ديمقراطي يكون وهما. أن تكون ديمقراطيا يعني – تعريفا – القبول بالاختلاف، ويبقى نظام الحكم بالتعريف هو قدرة مؤسسات أي دولة على إدارة الاختلاف.
ما لدينا، مقارنة باليابان وألمانيا والهند، هو إكسسوار الديمقراطية، أي الصندوق والطوابير واحتفالات الإعلان عن المنتصر. شكل للديمقراطية. وهذا ما أشير إليه على أنه وهم الديمقراطية، أي نلبس ثياب الديمقراطية، أما الجوهر فهو غيرها من حيث متطلبات هذا الملبس، لباس جديد دونما استحمام للجسد الذي يلبسه، لتقريب صورة معقدة بشكل بسيط.
ويمكن تصنيف الحضارة العربية المعاصرة مجملا بأنها حضارة الشكل، أو الحضارة الشكلية، بداية من اللحى الطويلة والجلباب القصير أو غطاء الرأس أو كشفه، ولكن هذا المظهر لا يعكس جوهرا، أي لا الكاشفة ليبرالية ولا المحجبة محافظة.
وهذا ليس حكرا علينا، فبريطانيا في العصر الفيكتوري مثلا كانت مثالا لمجتمع النفاق أو المظهرية والشكل لإرضاء المجتمع، نحن ربما تاريخيا أقرب إلى العهد الفيكتوري، وهذا يحتاج إلى دراسة مقارنة جادة.
النقطة هنا هي أن شكل الديمقراطية من صندوق وطوابير انتخابات إلى آخره لا يعني جوهر الحكم الديمقراطي. الشكل يبقى شكلا وهذا ما عندنا، أما الجوهر فهو موجود في اليابان والهند وألمانيا وأميركا وبريطانيا. قصة قد نصلها بعد عشرات كثيرة من السنين.
بداية الديمقراطية هي الفرد الحر الذي يسبح كما سمكة في بحر من الحرية، وما عندنا ليست بحارا لكنها برك راكدة لا تسمح بحرية سباحة للأسماك، وإنما صالحة لتربية الضفادع.