في زيارة مفاجئة لوزارة الدفاع الأميركية البنتاغون في السابع من الشهر الجاري، ألقى الرئيس الأميركي خطابا ضمنه تصريحات هامة بشأن إنجازات وأهداف التحالف الدولي الذي تقوده أميركا لمحاربة تنظيم الدولة الإسلامية منذ نحو عشرة أشهر.
لماذا جاء هذا الخطاب في هذا الوقت وإلى من يوجه؟ وماذا يستخلص منه؟ ورمزية المكان الذي أطلق منه.
أولا: أن اختيار البنتاغون كان شيئا طبيعيا، نظرا لأن وزارة الدفاع هي المعنية مباشرة بالعمليات العسكرية. وبتحليل للتصريحات الأميركية منذ بداية غارات التحالف الدولي وحتى خطاب أوباما والتي تركزت على “مواجهة” التنظيم، توحي بأنه ليس هنالك من إستراتيجية واضحة للقضاء على هذا التنظيم بل التوجه نحو احتوائه، وهذا ما بدا واضحا منذ اليوم الأول لبدء الغارات. و”احتواء” التنظيم يعني حصره في مناطق معينة ورسم خطوط حمراء، لا يمكن له تجاوزها.
نجح هذا الائتلاف في إيقاف تنظيم الدولة عند حدود كردستان العراق وأوقف اجتياح كركوك وأربيل، ونجح في حماية سد الموصل. ونجح إلى حد ما في منعه من السيطرة على مصفاة “بيجي”.
“ليست هنالك من إستراتيجية واضحة للقضاء على تنظيم الدولة، بل التوجه نحو احتوائه، وهذا ما بدا واضحا منذ اليوم الأول لبدء الغارات. و”احتواء” التنظيم يعني حصره في مناطق معينة ورسم خطوط حمراء، لا يمكن له تجاوزها”
كما نجح ولو متأخرا في أكتوبر/تشرين الأول الماضي في إنقاذ عين العرب (كوباني) كذلك في مايو/أيار الماضي في دحر التنظيم في تل أبيض، ومساعدة قوات حماية الشعب الكردي بتعزيز مواقعها في الشريط الكردي، وحرمان التنظيم من أكثر من معبر على الحدود مع تركيا.
إلا أن هذا التحالف لم ينجح -أو لم يسع أصلا- إلى توقيف تمدد الدولة الإسلامية في أكثر من مكان، سواء في سوريا، أم في العراق. فبعد سقوط الموصل، سقطت الرمادي وسقطت تدمر واستكمل التنظيم سيطرته على نصف مساحة سوريا، وثلث مساحة العراق وأصبحت مساحة دولة الخلافة تفوق مساحة بريطانيا.
من هنا نرى أن الخطاب الأميركي ومحتوياته غير دقيقة وغير واضحة، والخطاب موجه ببساطة إلى جهات عدة إلى الحلفاء “60 دولة” الذين تقودهم أميركا. إلى المجتمع الدولي وإلى تركيا. وإلى كل من يهمه الأمر. ورسالته “أبشر بطول سلامة، يا تنظيم الدولة”.
خلال تسعة أشهر وباستثناء الغارات الجدية والمكثفة على مراكز قيادة التنظيم في الرقة الأسبوع الماضي (37 قتيلا) لم تتعرض الرقة لأية غارات تذكر نسبيا حوالي (85 غارة) من أصل 5000 غارة تحدث عنها الرئيس الأميركي.
وكانت قوافل الدولة الإسلامية، وآلياتها تجوب الأنبار والبادية السورية متلاصقة ترفع الأعلام دون خشية من أية غارة جوية.
لقد كتبنا أكثر من مقال، عن بنود عشرة على الأقل للقضاء على الإرهاب، وتحديدا إنهاء ظاهرة تنظيم الدولة، والعمل العسكري هو أحد هذه البنود، وقطع الموارد المالية هو أحدها أيضا، فلماذا تأخرت أميركا في التفكير بهذا البند الهام، وجاء الرئيس الأميركي أمس يركز على ضرورة تنفيذه.
قال الرئيس أوباما إن المعركة طويلة لسنوات. وهذا صحيح وواضح فلاستكمال البنود العشرة يلزمنا عشر سنوات على الأقل. إذا كان سيتذكر كل سنة بندا!
“التحالف لم ينجح -أو لم يسع أصلا- إلى توقيف تمدد الدولة الإسلامية في أكثر من مكان، سواء في سوريا، أم في العراق. فبعد سقوط الموصل، سقطت الرمادي وسقطت تدمر واستكمل التنظيم سيطرته على نصف مساحة سوريا، وثلث مساحة العراق “
يقول الرئيس أوباما إن التنظيم سيدحر عند وجود حليف فعال يقاتل على الأرض في سوريا. صحيح، ولكن أين هو هذا الحليف؟ من المؤكد أن النظام السوري ليس الحليف المفترض. وهل تسليح وتدريب المئات فقط من “المعارضة المعتدلة” الذين ربما وصل عددهم إلى خمسة آلاف بعد سنوات هو الحل؟ هل سيكونون القوة الضاربة التي سيوكل إليها دحر التنظيم على الأرض؟ حتما لا.
أما في العراق فالشريك الوحيد والمفترض والظاهر هو الجيش العراقي الذي يفتقد إلى العدد والسلاح المتطور، والمعنويات والحوافز، والولاء والثقة.. إلخ. والذي لم يستطع الرئيس حيدر العبادي رغم جهوده إعادة تنظيم أكثر من 6 فرق (حوالي 70 ألف جندي) بالإضافة إلى أزمة الثقة وتبادل الاتهامات بين الحكومتين الأميركية والعراقية بشأن الجيش بعد هزيمته في الموصل، ومن ثم في الرمادي.
وبخلاف الرئيس الأميركي الذي يتحدث عن وحدة العراق ويتعامل مع الحكومة المركزية، يرى الكونغرس الأميركي أن العراق مقسم أو على طريق التقسيم، ويتحدث عن ضرورة التعامل مع المكونات العراقية، الشيعة والعشائر السنية والأكراد دون المرور بسلطة بغداد.
ثم إن هنالك نقاطا هامة لم يشر إليها الرئيس الأميركي، منها موقف دول الجوار لسوريا والعراق، وفي المقدمة منها تركيا وإيران، حيث لا تنسيق رسميا واضحا معها بشأن تواجدها في الميدان العراقي.
فلا يمكن لتركيا أن تنكر أن مقاتلي تنظيم الدولة الذين يتوافدون بالآلاف إلى سوريا ومنها للعراق لا ينزلون بالمظلات بل يعبرون الحدود، وأن قرارا صدر من مجلس الأمن وتحت البند السابع تحت الرقم 2170 في يونيو/حزيران 2014 يمنع تسليح وتسهيل مرور وعبور المقاتلين والأسلحة أفرادا وجماعات.. إلى سوريا. فهل تجد أميركا آلية أو تتخذ موقفا لتطبيق هذا القرار؟
وإذا كان خطاب الرئيس الأميركي يظهر قمة التشاؤم بالقضاء على التنظيم، فإن إعادة النظر بالاستراتيجية أو تطويرها لم يصل بعد إلى مرحلة القرار الحاسم. علما بأن الوزير الأميركي الذي عقب على خطاب الرئيس أتى بمعلومات غير صحيحة عن تدمير الآلاف من المواقع القتالية! وعن أن التنظيم خسر 20% من الأراضي التي “كان” يسيطر عليها. والقاصي والداني يعلم أن العكس هو الصحيح.
“الخطاب الأميركي محبط لكل آمل أو مراهن على دور التحالف الدولي، ومطمئن لتنظيم الدولة الإسلامية، مع بوليصة تأمين لعشر سنوات على الأقل. ويصدق فيه المثل المشهور “تمخض الجبل فولد فأرا””
أما برنامج تدريب المقاتلين “المعتدلين” الذي رصد له 500 مليون دولار فيراوح مكانه منذ ثلاثة أشهر. فالمتطوعون قلة (10% من العدد المنتظر) والاختيار دقيق، والخلاف بين تركيا وأميركا على الهدف واضح. تركيا لم ولن تقتنع بأن الحرب ضد التنظيم من أهدافها الاستراتيجية أو أولوياتها التي يتصدرها إسقاط النظام السوري وإقامة المنطقة العازلة بينما ترى واشنطن عكس ذلك.
هي إذن مراوحة، وإضاعة للوقت وللفرص. في هذا الوقت باشر التنظيم الهجوم المعاكس على عين العرب (كوباني) والحسكة وتل أبيض في سوريا وسيطر على مزيد من آبار النفط والسدود ومصادر المياه في العراق وعاد للتحرش بكردستان، وهو على يقين بأن خطة استعادة الرمادي لم ترسم بعد فكيف باستعادة الموصل؟!
باختصار فإن الخطاب الأميركي محبط لكل آمل أو مراهن على دور التحالف الدولي، ومطمئن لتنظيم الدولة الإسلامية، مع بوليصة تأمين لعشر سنوات على الأقل. ويصدق فيه المثل المشهور “تمخض الجبل فولد فأرا”.
أخيرا هناك مثل أميركي يقول إن منتهى الإحباط والتعاسة سببه تضخيم الآمال، أو ارتفاع التوقعات (High Expectation)، ومع أننا لسنا من الذين رفعوا سقف آمالنا فإن الملايين غيرنا ذهبوا في غير اتجاهنا. لأننا نرى أن التوقيت “Timing” -وهي كلمة هامة في الثقافة الأميركية- لم يحن بعد للقضاء على التنظيم.
وعندما يحين الوقت أو يأتي التوقيت فإننا نعلم ويعلم الرئيس الأميركي أن استئصال التنظيم هو مسألة أشهر لا أكثر. ومن يعش ير.
هشام جابر