الإرهاب الفكري أحد الأسس التي يقوم عليها الإرهاب المادي، في كل زمان ومكان، وليس حصراً في الشرق الأوسط، على رغم استفحال ظاهرة الإرهاب فيه راهناً في شكل غير مسبوق. فالإرهاب الفكري هو المنبع الذي ينهل منه الإرهاب المادي بمختلف أشكاله بغض النظر عن العناوين التي يختارها لنفسه أو التي يتم إدخاله في قالبها النظري أو السياسي. وبهذا يكون الإرهاب المادي مصب نهر الإرهاب الفكري القاتل.
ويمكن اعتبار الإرهاب السياسي حلقة وسطى بين الإرهاب الفكري والإرهاب المادي. وذلك لأن ترجمة الإرهاب الفكري تكون أولاً ذات طابع سياسي لكونها تغلق كل أبواب ونوافذ المجتمعات والشعوب نحو حريتها في تقرير مصيرها بنفسها، ونحو التعبير عن كونها صاحبة السيادة الحقيقية في مختلف المجالات.
وبهذا فالإرهاب الفكري يؤسس لثقافة سياسية مغلقة على ذاتها، رافضة ومُقصية لما هو مباين لها، على أي مستوى. وسيادة هذه الثقافة هي التي تمكّن الاستبداد السياسي من خلفية نظرية تسوِّغ له احتكار السلطة والثروة وصنع القرار الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، لذلك تجده غالباً ما لا يقبل، بدوره، أي شكل من أشكال التعدد والمنافسة النزيهة بين مكونات المجتمع السياسي، لأنه لا يرى في غير مؤسساته الخاصة إلا عناصر تخريب وهدم.
وعليه، فإن الاستبداد يجابه المختلف عنه بترسانة من القوانين الزجرية والقمعية التي تشل حركته في مختلف المجالات، وتمنعه من اتخاذ أي مبادرة مستقلة عنه، فأحرى أن تندرج ضمن ما هو مناهض للقواعد التي وضعها والحدود التي رسمها لما هو مقبول على صعيد التفكير والممارسة معاً.
ويعتبر الإرهاب من هذا المنظور قضية مركبة وبناء متشابكاً لعدد من الظواهر والعوامل التي يصعب الفصل بينها، لا منطقياً ونظرياً، ولا عملياً، متى أريد لمعالجتها أن تكون ناجعة في التصدي لهذه الظاهرة.
من هنا، فمحاولة عزل مستوى من مستويات هذه الظاهرة عن مستوياتها الأخرى، تحت أي مبرر، مآلها الفشل، الأمر الذي يفرض على المجتمع الذي ابتلي بهذه الآفة التحرك على كافة المستويات ذات الصلة بها لاستئصالها من جذورها. وهو ما يقتضي العمل في شكل مواز على المستويات الفكرية والسياسية والقانونية والاجتماعية والميدانية ضمن خطة مسبقة محددة لتخليص المجتمع من العوامل المساعدة على ظهور آفة الإرهاب وانتشارها.
فعلى المستوى الفكري الأيديولوجي، تطرح بإلحاح القضايا الأساسية التالية:
أ- العمل على تبيان تهافت الفكر التكفيري والإقصائي بمختلف أشكاله وتجلياته على المستوى الديني والنظري، انطلاقاً من تفكيك منظومة هذا الفكر وكشف مغالطاته المنطقية والتاريخية.
ب- تأكيد مبادئ التسامح الديني الذي أطر مختلف الأديان على أساس كونها تهدف إلى إقامة التعايش بين الشعوب والأمم على أسس متينة وليس الهدف منها تدمير مقومات هذا التعايش كما تقوم بذلك الحركات التكفيرية في مختلف الأديان. هذا إلى جانب نشر وإشاعة الرؤى النظرية القادرة على استيعاب الاختلاف والتباين في التصورات والمواقف وحق الجميع في التعبير عن آرائه دون إكراه أو قيد في إطار الاحترام المتبادل لمختلف وجهات النظر التي تتفاعل داخل أي مجتمع من المجتمعات.
ج- إعادة الاعتبار لما يمكن اعتباره جدل الموقف والموقف المخالف ضمن بوتقة فكرية جامعة هي القادرة على نشر ثقافة القبول بالآخر كما هو، كما يريد البعض أن يكون ذلك. إن هذا الموقف الأخير يؤدي في كل الأحوال الى الإلغاء والإقصاء بما في ذلك الحرمان من الحق في الحياة كما تقوم بذلك القوى الإرهابية في مختلف المجتمعات الإنسانية.
وعلى المستوى السياسي يمكن التركيز على قضايا ومهمات في مقدمها:
أ- العمل على تفكيك ثقافة الاستبداد السياسي وكشف عوراته في مختلف المجالات وفضح مخاطره الفعلية على الاجتماع البشري.
ب- إقامة مؤسسات دستورية وطنية وجهوية ومناطقية تقوم بالتدبير الديموقراطي الحر للشأن العام الوطني والمحلي وتعطي حيزاً هاماً للآراء المختلفة للتعبير عن نفسها بالحرية الكاملة التي على دستور البلاد أو ما يقوم مقامه من مواثيق وعهود توفير الضمانات الضرورية لذلك.
ج- تجريم ومحاربة أي شكل من أشكال الإرهاب الفكري والسياسي الذي قد يلجأ إليه بعض قوى المجتمع لفرض تصوراتها خارج ما تسمح به الأساليب الديموقراطية بمختلف تجلياتها.
وعلى المستوى الاجتماعي، يمكن التركيز على محاربة الفقر والعوز الاجتماعي وإقامة نوع من العدالة الاجتماعية التي توفر العيش الكريم للمواطنين وعدم الاعتداء على حقوقهم الاجتماعية.
ويبدو أنه في ظل توافر مثل هذه الشروط الأساسية يمكن للحرب الشاملة على الإرهاب، على المستوى الميداني، أن تكون فعالة لأنها تكون قد استوفت شروط التفاف مختلف مكونات المجتمع حول القوة الضاربة التي تعينها الدولة للاضطلاع بالأدوار الأولى في مثل هذه الحرب العادلة باعتبارها حرب مجتمع بأكمله ضد عدو مشترك، بالنسبة إلى مكوناته، وهو الإرهاب.
حسن السوسي