بتاريخ 4\9\2015 اقام منتدى الإصلاح والتغيير بمدينة القامشلي حلقة نقاشية بعنوان “دور المثقف في الثورة السورية” حضرها عدد من الشخصيات السياسية والثقافية وممثلي منظمات المجتمع المدني ومن مختلف مكونات منطقة القامشلي اضافة الى مشاركات لنخبة من السياسيين والمثقفين السوريين (د.أحمد برقاوي- أ. ابراهيم اليوسف – د.منذر خدام- أ.بيير رستم – أ. منير الخطيب- أ.علي مسلم – أ. أدريس خلو) وصلت لإدارة المنتدى عبر البريد الإلكتروني
وفي بداية الحلقة النقاشية القى الأستاذ أكرم حسين محاضرة بعنوان “تقييم دور المثقف في الثورة السورية” تناول فيها عدة نقاط منها :
- دور المثقف في انطلاقة الثورة السورية
- تقييم تعاطي المثقف مع البعد الطائفي للثورة السورية
- موقف المثقف من السلطة في المناطق التي خرجت عن سيطرة النظام
- ما المطلوب من المثقف حالياً ودور المثقف في سوريا المستقبل
ثم فتح باب النقاش امام مداخلات الحضور والنقاش حول النقاط الرئيسية التي طرحها المحاضر
أدار الحلقة النقاشية عضوا إدارة المنتدى(أ.كاظم خليفة- أ. شيرزاد يوسف)
مداخلات الحضور:
أ.نجاح هيفو
- حالة المثقف العضوي هي الراجحة بالنسبة للمثقف السوري منذ بداية الثورة فكان الحامل الاساسي للهموم والمسؤولية ومواجهة الواقع الاليم
- بالنسبة لدور المثقف خلال عهد النظام الاستبدادي الحاكم فكانت الخيارات محدودة ومصيرية امامه (اما …أو)بمعنى اما أن تكون متخاذلاً مسيراً وتابعاً أو أن تكون مناضلاً حقيقياً لمواجهة القمع والبطش (حالة المناضل الكبير مشعل التمو)
- حالة المثقف الحالية متشتتة وتتسم بالتبعية
- المثقف السوري خلال الثورة السورية كان من أكثر الفئات التي دفعت ثمناً باهظاً اما بالتصفية أو النزوح( الخارجي أو الداخلي)
أ.علي السعد
- يمكن تقسيم المثقفين السوريين منذ بدء الثورة الى ثلاث فئات وهم أ- مثقف السلطة وهو جبان وغير مبدع ولايتمتع بالنزاهة والاستقلالية وهو تبريري مأجور وكتاباته لاتوقظ نائم ولاتزعج مستيقظ وهو على الهامش دائما ب- المثقف الذي وقف في المنطقة الرمادية وتصرف بشكل اكاديمي متعال (حياد ثقافي) نتيجة الخوف من بطش السلطة والقمع واعتبر اي حالة نضالية ضرب من الفوضى والسطحية ج- المثقف الملتزم بالثورة وعايش همومها لكن دوره بقي محددا وغير فعال نتيجة حالة التصحر التي عايشتها سوريا منذ خمس عقود من انعدام تام للحالة الثقافية وبقي عطاءه محدودا وغير فعال
- مهمة المثقف بشكل عام يجب أن تكون تحريضية ضد الاستبداد والديكتاتورية وابواقها الاعلامية الضخمة
- خلال خمس سنوات من الثورة افرزت الثورة مثقفا جديدا تبنى ثقافة معاصرة وقيما جديدة وذهنية منفتحة على الاخر وامتلك الشجاعة والاخلاص واسس لثقافة تعدد الآراء ونبذ الالغائية والعزلة والتأرجح وبذل دوراً لإعادة الحياة السياسية الى النسيج السوري
أ.بنكين وليكا
- هناك التباس متعلق بالحديث حول دور المثقف المخطط وتمهيده للأرضية المعرفية للثورات المنشودة فحقيقة هذه العلاقة لم تتحقق حتى تاريخياً والثورة الرومانية (وانهيار نظام شاويسسكو المفاجئ اكبر دليل على ذلك)
- دور المثقف في انطلاقة الثورة السورية كان دورا سلبياً أو بأحسن الاحوال لم يكن ايجابياً والنظام الاستبدادي خلال عقود حكمه دجن غالبية المثقفين اما ترغيباً أو ترهيباً والمواقف السلبية للمثقفين السوريين من انتفاضة قامشلو عام 2004 خير دليل على ذلك
- وبخصوص تعاطي المثقفين مع البعد الطائفي للثورة السورية فقد حدث انزياح فكري سلبي(إيديولوجي – سياسي) لدى غالبية المثقفين السوريين وهيمنة على خطاباته عبارات التعصب الطائفي والقومي والديني
أ. يوسف
- لم يكن للمثقف السوري دور في الثورة وكان للربيع العربي الدور الاكبر في انطلاقة الثورة فالثقافة السائدة في عهد البعث كانت فرعية وانطوائية بامتياز وتشتت مواقف المثقف السوريين ازاء ذلك والبيئات الاجتماعية الحاضنة للمجموعات الدينية المتطرفة المسلحة(كداعش وجبهة النصرة …) تثبت أن المثقف السوري لم يلعب بأي دور خلال الفترة المنصرمة
- حول تعاطي المثقف مع البعد الطائفي للثورة فاعتقد ان المثقف اصبح جزءا من المشكلة بدلاً أن يكون جزءاً من الحل وانقسمت آراء المثقفين السوريين بين الطائفية والقومية المتعصبة وحتى ذوي الآراء العلمانية لم يكونوا واضحين في اطروحاتهم
- من المهم أن تتوحد جهود المثقفين السوريين في اطار عام يجمعهم ليكونوا قادرين على تمييز الخطأ من الصواب مما يجري حالياً
أ.آدم حسين
- دور المثقف تاريخياً كان اساسياً في توعية الجماهير (جان جاك روسو- ميكافيلي..) فكانت لكتاباتهم الاثر الكبير في انطلاقة الثورات وهذا الدور التنويري ومع الاسف لم يساهم به المثقف السوري في التمهيد لانطلاقة الثورة السورية
أ.صالح جانكو
- الفعالية الثقافية تأتي نتيجة لتراكمات معرفية للمفكرين والباحثين ولايجوز أن نطالب المثقف ببيانات فورية وربيع دمشق باعتقادي نتج عن هذه التراكمات
- من الخطأ مطالبة المثقف بلعب دور السياسي لكن من الممكن أن يكون السياسي مثقفاً ولايجوز أن نحمل المثقف اعباء لايتحملها
- الثورة السورية تحولت مسارها من السلمي الى حرب مخابراتية دولية لتنفيذ اجنداتها ومن الطبيعي أن يغيب عنها دور المثقفين حالياً
أبو سليمان
- غاب دور المثقف في المجتمع عمداً من قبل السلطة الاستبداية الشمولية مدعوماً بإمكانيته الاعلامية الضخمة(البروبغندا)
- المثقف هو الذي يعمل على التجديد وقبول الآخر وطرح البديل الديمقراطي المناسب
د.شوقي محمد
- المهمة الاساسية للمثقف تتجسد في تغيير التركيبة البنيوية للمجتمع التي تحتاج الى تغيير لكنه يصطدم عادة بعدة عقبات منها عقبة السلطة الاستبدادية وأخرى طائفية وعشائرية وحزبية..
- يتم محاربة المثقف من قبل عدة جهات لانه غالبا ما يكون غير “مؤطر” ويتم تقزيم افكاره بشكل متعمد سواء من قبل السلطة أو من قبل البعض ذوي العقليات الحزبية الضيقة
- المثقفين كان لهم الدور الاساس في وضع اللبنة الاساسية للتغيير في سوريا وحتى قبل توقيع اعلان دمشق (المناشدات المتكرر للباحث طيب تيزيني للسلطة بضرورة الاصلاح والتغيير مثال على )ذلك لكن بعد قيام الثورة حدثت اصطفافات وتجاذبات على أسس سياسية أو طائفية ضمن صفوف المثقفين أنفسهم فمنهم من وقف مع السلطة ومنهم من وقف مع المعارضة وآخرون وقفوا على الحياد هذا أدى الى تهميش أوتقزيم دور المثقفين خلال الثورة السورية
أ.خليل يوسف
- بالنسبة لموقف المقفين من السلطات الجديدة في المناطق التي خرجت من سيطرة النظام لم يكن للمثقفين دور ايجابي في توجيه السلطات الجديدة لان لكل سلطة عقيدة مختلفة ومن هنا لم يكن للمقفين اي دور في توجيه السلطات لبناء وطن للجميع بعيدا عن الطائفية والتطرف الديني بل ان كثيرا منهم عمل على ترسيخ الطائفية والتطرف الديني اما بالنسبة للمحور الرابع باعتقادي يجب ان يكون للمثقفين دورا بارزا في بناء سوريا المستقبل بان يقوموا بالتمهيد لبناء سوريا المستقبل سوريا خالية من العنصرية والتمييز سوريا الحرية والعدالة والمساواة وتحقيق الديمقراطية التوافقية والعمل على تهيئة المناخ العام لنبذ التفرقة وقبولنا للاخر وعدم اتهامنا للاخرين بالعمالة والخيانة وبصريح العبارة نسيان كل العقائد والأيدولوجيات العقيمة التي لاتعترف الا بنفسها وعندئذ سيتحقق مجتمعا مزدهرا خال من التنا قضات والمنازعات للتهيئة الى دولة لامركزية تعترف بحقوق جميع مكونات السوريين على قدم المساواة واحقاق الحقوق لكل السوريين
أ.داوود داوود
- ليس بمثقف من لايدافع عن حقوق شعبه في الحرية والكرامة ومواجهة الاستبداد
- هامش العلاقة بين المثقف والحرية كان قاسياً جداً والنظام عمل بكل الوسائل لتضييقه
- المثقف السوري كان مهتما بالأمور السياسية وكان له دورا تنويرياً وبيان ال99 في ايام ربيع دمشق هز اركان النظام آنذاك
- التعاطي العسكري للنظام مع الثورة أفرز داعش واخواتها
- حتى في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام لايزال المثقف يعاني من عقدة الخوف من النظام
- الثورة السورية افرزت المثقفين الى عدة فئات فمنهم من قدم تضحيات كبيرة دفاعا عن حرية شعبه ومنهم من خذل الشعب بمواقفه الطائفية (أدونيس مثالاً) والبعض ادعى الحيادية (سلبية أو ايجابية)ولم يبرز أية مواقف هامة
أ.فيصل يوسف
- قبل الثورة لم نسمع بمثقف سوري داعية للثورة في ظل النظام الشمولي الاستبدادي الحاكم بل اقتصرت على مطالبات بالإصلاح والتغيير الديمقراطي التدرجي
- مثقفي” لجان احيان المجتمع المدني” كان لهم دور هام في السعي من الخلاص من الحالة الاستبدادية
- بعد قيام الثورة كثرت ظاهرة المثقف “الطائفي ” و”القومي ” ولم نجد سوى عدد قليل من المثقفين ذوي الانتماءات الوطنية السورية
- من المهم أن تتوحد جهود المثقفين في تأسيس رؤية لمستقبل سوريا
أ.بشير السعدي
- بالرغم من الدور الهام للمثقفين في الثورة السورية الإ أن دور القوى السياسية تبقى هي الأساس
- ما بعد تشكل الدولة الوطنية الاستبدادية في فترة الستينات بقي دور المثقف محدوداً
- دور المثقف المنتمي للتنظيمات السياسية كان أكثر فاعلية من دور المثقف المستقل واعلان دمشق خير مثال على ذلك
أ.نايف جبيرو
- من خلال المحاضرة وجدت تضخيم مبالغ به لدور بعض المثقفين السوريين
- دور المثقفين في المناطق التي خرجت عن سيطرة النظام وخاصة في المناطق التي تسيطر عليها الجماعات المتطرفة بقي متخاذلاً وهامشياً
- دور المثقف الاساسي هو بناء الفكر والثقافة وتوعية المجتمع وليس قيادة الثورة كما يظن البعض والمثقف السوري لم يلعب هذا الدور
مداخلات وردت إدارة منتدى الإصلاح والتغيير عبر البريد الالكتروني
أ.بيير رستم
هناك مقولة مشهورة لوزير الدعاية النازية جوزيف غوبلز تقول؛ “كلما رأيث مثقفاً أتحسس مسدسي” وكذلك مقولته الأخرى؛ “أعطني إعلاماً بلا ضمير أعطيك شعباً بلا وعي”. وهكذا ندرك بأن هناك دائماً نوع من الإرتباط والعلاقة بين الثقافي والسلطوي السيادي وإن كانت تلك العلاقة تكون في أكثر الحالات هي علاقة نفور وتضاد وصراع والتي عبر عنها مقولة غوبلز و”تحسسه لمسدسه”، كلما رأى مثقفاً والتاريخ الإنساني يخبرنا عن مآسي وجرائم السلطات بحق المثقفين والمتنويرين حيث الكثير منهم ضحوا بحياتهم وتدحرجت رؤوسهم على المقاصل _غاليلو_ لكي يوصلوا الحقيقة لنا وبأن “الأرض تدور” وهناك أيضاً؛ إبن المقفع وبشار بن برد ومهدي عامل وفرج فودة وعبد الرحمن قاسملو وموسى عنتر .. وإن قائمة قتل المفكرين والأدباء والعلماء تطول _وللأسف_ وذلك على مدى التاريخ الإنساني وما أسسه من نظم القمع والطغيان. وهكذا فإن العلاقة بين الثقافي والسلطوي، كانت محكومة بثنائية القبول والرفض في أغلب المراحل الحضارية، إن لم نقل في كلها إلا ما ندر لتكون علاقة حوار وجدال ورعاية للبحث العلمي والفكري. وبالتالي ونتيجةً لتلك الثنائية الإشكالية؛ ثنائية الرفض والقبول، فإن “المثقف” عموماً كان محكوماً بثنائية أخرى؛ إما الرضوخ للسلطوي ليجعل من نفسه (مداحاً وبوقاً) للسلطان والأمير _شعراء البلاط_ أو يصبح “زنديقاً وصاحب بدعة” وقد يواجه مصيره بالموت أو الصمت والهروب كما في أغلب الحالات.. ويقول الكاتب المصري جلال أمين في مقالة له بعنوان “وزير الثقافة الجديد يتحسس مسدسه” بهذا الخصوص ما يلي: “إن هذا ما يفعله المتدينون المتعصبون اليوم، وهو نفسه ما فعله الماركسيون فى روسيا السوفييتية فقتلوا روح الشعب الروسى لعشرات من السنين، وهو ما فعله النازيون فى ألمانيا والفاشيون فى إيطاليا، لفترة أقصر لحسن الحظ، فأجبروا أصحاب أفضل العقول وأشد الناس حساسية على الهجرة هاربين إلى خارج بلادهم، أو على الهجرة مكتئبين إلى داخل النفس، مع التزام الصمت التام”. وهكذا فإن العلاقة كانت _وما زالت_ بين الثقافي والسلطوي هي علاقة إشكالية نافية؛ كل منهما يحاول إلغاء ونفي الآخر والقضاء عليه؛ الأول “المثقف” من خلال تغيير النظام بنوياً ثقافياً وهذا الأخير من خلال قتل المثقف نفسه لكي يستفرد بالسلطة ومن دون سماع الصوت الآخر وتقريعاته ونقده لمنظومته القمعية. وبالتأكيد كان وضع الشعب السوري عموماً _والمثقف تحديداً_ جزءً من هذه المعادلة الإشكالية وخاصةً مع تفاقم أزمة الدولة العربية القوموية ومنظوماتها السياسية والتي تغولت مع أجهزتها الأمنية في العقود الأخيرة بحيث بات المواطن مخيرٌ بين السجن والمنفى أو تحويله إلى “بوق سياسي وإمعة” على فتات موائد الطغاة وبالتالي أن يكون مداحاً مصفقاً للأمير _وحتى لكلب الأمير_ وهكذا تم تغييب أي دور ونشاط فكري ثقافي يمكن أن يشكل تهديداً لمنظومات القمع السلطوية بحيث تحول المجتمع إلى قفار وصحراء ثقافي في الواقع العربي والسوري، تتخلله بعض الجزر الثقافية هنا وهناك ولكن دون أن أي إمتلاك لمقومات مجتمعية جماهيرية حيث أصواتها تكاد أن لا تصل إلى خلف جدران سجونهم أو مكاتبهم المظلمة، مع هيمنة الدولة وإمعاتها الثقافية على كل المنابر الإعلامية و”الثقافية” في هذه البلدان _وسوريا ضمناً_ بحيث تم تجييش الشارع لصالح أجندات وأيديولوجيات عقائدية ديماغوجية؛ إن كانت نتيجة البروباغندا الإعلامية للتيار السلطوي للنظام وفكر البعث والقومية العربية أو التيار الديني الإخواني السلفي .. وهكذا تم تغييب الصوت العقلاني من المجتمعات العربية لصالح السلطوي الإستبدادي أو السلفي الإخواني. وبالتالي وفي ظل تلك الأجواء كان من شبه الإستحالة القدرة على العمل الثقافي والسياسي والتأثير على البيئة الإجتماعية وذلك على الرغم أن كان هناك عدد من المحاولات الخجولة في بداية الألفية الجديدة والتي (تفاءلت خيراً) مع تولي الأسد الأبن الرئاسة في سوريا، لكن سرعان ما عادت “حليمة لعادتها القديمة” وأستولت الأجهزة الأمنية على كل المفاصل وصادرت هامش الحريات والتي كانت قد وفرت مناخاً لا بأس به لولادة “ربيع دمشقي” سرعان ما جوبه بالقمع والإعتقالات والتي رأت أوج التصعيد مع إعتقالات أعضاء المجلس الوطني لقوى إعلان دمشق عام 2007م. وهكذا _ومرة أخرى_ تم إغلاق كل المنابر والتي يمكن من خلالها عمل أي حراك ثقافي مجتمعي قادر على التأسيس لبنى فكرية تكون الأسس الحقيقية لأي تغيير سياسي ممكن مستقبلاً؛ كون المستبد شعر أن الكيان السياسي القائم على الإستبداد والطغيان بدأ يهتز مع موجة الحراك الثقافي ذاك ولذلك حاول القضاء عليه في المهد، مما أعاد المجتمع إلى “عنق الزجاجة” وليعود الخطابين السابقين؛ السلطوي والسلفي ليفعلا مفاعيلهم المجتمعية والدفع بالقاعدة الإجتماعية إلى المزيد من “الحنق” والإحتقان والغليان الداخلي والتي تفجرت مؤخراً مع ما عرف بـ”الربيع العربي” والذي تحول إلى العنف نتيجة غياب الفكر المدني الديمقراطي في مجتمعاتنا حيث ثنائية الرفض والرضوخ للواقع. إذاً الحرب والمعركة هي كانت الخيار وقد دفع إليه المجتمعات العربية بعد تغييب للعقل والفكر والثقافة لعقود، بل ربما لقرون عديدة وذلك مع هيمنة كل من الفكر القبلي والديني الإسلامي ورؤية الآخر “كافراً ملحداً زنديقاً” ولا بد من “إعادته إلى الطريق القويم” وإن كان (جهاداً) وحرباً حيث “الدين عند الله هو الإسلام”، ولم ننتهي من هذه المقولات الطائفية لتتحفنا القومية بعدد من المقولات العنصرية والتي لا تقل عن الأولى حقداً وضغينةً على الآخر وحيث “الأمة ذات الرسالة الخالدة” وكأن الأمم الأخرى ورسالاتها إلى الإضمحلال والزوال. وهكذا .. وعبر العقود المريرة لدولة الإستبداد والطغيان، كان دور المثقف مغيباً، بل كان هو نفسه ملغياً من الواقع الإجتماعي والسياسي في حياتنا وواقعنا، ولنصل أخيراً إلى الأفق المسدودة والتي تفجرت مع الحروب والأزمة الأخيرة _حيث لا يمكن حجز الماء وراء السدود_ ومع الأزمة والمأساة الحالية في البلد وحيث الحرب وويلاتها وكوارثها، فلا يمكن للمثقف أن يشكل سداً لوقف هذا التدحرج المريع إلى الهاوية، ففي زمن الحروب “لا صوت يعلو فوق صوت المعركة” ولذلك تُرِكَ البلد للذهاب إلى ما عرفت بـ”الفوضى الخلاقة” والتي ستتكفل بتهديم كل القديم من بنى فكرية ثقافية ومنظومات سياسية مجتمعية وإن ذلك قد تأخذ عقود وسنوات _إلى أن يقول المجتمع “كفى”_ ويعود صوت العقل إلى مجتمعاتنا وتصبح الكلمة قادرة على إيقاف الرصاصة. طبعاً هذا لا يعني إن على المثقف حالياً أن يقف متفرجاً معطلاً و”مكتوف اليدين”، بل هو مطالب أن يتخلص من خطابه الطائفي التخويني والمساهمة في وضع مشروع ثقافي فكري يؤسس لواقع مجتمعي سياسي جديد قائم على مفهوم القبول بالتعددية والشراكة السياسية في دول ومجتمعات تحكمها دساتير مدنية ديمقراطية تحقق للإنسان كرامته وحريته وبعيداً عن التمايزات الإثنية والثقافية، دولة الحريات العامة والديمقراطية والمجتمع المدني الإنساني .. وإلى ذلك الوقت، فإن المثقفين السوريين مطالبين بالإبتعاد عن الإنقسامات المذهبية والعرقية وتجاوز الخلافات الحزبوية والعمل على مشروع وطني حقيقي، كما أسلفت، ونعلم أن المهمة صعبة _لكنها ليست مستحيلة_ وكذلك هو صحيح أن اليوم “صوت المعركة” هي العالية بكل ضجيجها وطحنها لنا جميعاً، لكن علينا أن نعلم جيداً بأن الكلمة أبقى من البندقية. وبالتالي على المثقف السوري أن يطرح مشروعه الفكري الثقافي ليكون البديل عن كل ما هو سلطوي إستبدادي إلغائي إقصائي كما كان _وما زال_ هو واقع مجتمعاتنا الشرق أوسطية
د.أحمد برقاوي
حين ينتمي المثقف إلى هموم الناس والمعرفة والوجود دون أن يتسلم تكليفاً م ن الناس والمعرفة والوجود فإنه يصنع هويته بوصفه مثقفاً، لأن المثقف ليس إلا ما سبق من قول. إنه حرٌ بالمعنى الوجودي للكلمة، حرٌ في حقل القول الحر المبرأ من المنفعة الذاتية . وأنا إذ أتحدث عن المثقف الكاتب فلأني أعطي الأهمية الكبرى للقول – الموقف، وليس للقول- الاحتراف. حين تغدو المعرفة احترافاً بلا موقف من مشكلات العالم المعيش، دون انخراط في حركة التاريخ التي يصنعها البشر بدمائهم، فهذا يدل على الفقر الروحي للمثقف التقني، أو الذاتي، الذي يحتمي خلف نزعة أكاديمية مصطنعة، ومن أخطر النتائج المترتبة على الاحتراف الأكاديمي، انسحاب المتردين برداء من التجريد من القول في لحظات التاريخ الحاسمة. تطرح الثورة السورية اليوم على المثقف بعامة وعلى المثقف السوري سؤالاً واحداً : أجب بنعم أو لا. هل أنت مع الثورة أم ضدها ؟ ليس للحياد مكان في الجواب ولا مكان لجواب: «لا اعرف». لاشك أن الثورة ـ اليوم أستاذ قاس ويحمل عصا غليظة ليضرب بها من يجيب على السؤال بـ لا أو بلا أدري . المثقف الحقيقي والعضوي والديموقراطي هو الذي يجيب «بنعم» أنا مع الثورة، لأنها كحركة شعبية تكنس التاريخ من «الأوساخ» التي تراكمت عليه منذ عشرات السنين. ولعمري أن المثقف المنتمي الى هموم البشر والذي الذي ظن الطغاة أنه قد انتهى من عالمنا، هذا المثقف احاضرٌ الآن بهذه الصورة أو تلك، في عالم ثورات المنطقة كلها . إنه – أي المثقف المنتمي – يعتقد أن التاريخ يحقق حلمه الأكبر وأنه استجاب لما يريد . إن «اللا» التي كان يردها عبر خطاباته النظرية أو التحريضية فلسفة وشعراً وفكراً هي التي تحولت إلى نعم للثورات فالنعم التي ولدت من رحم «اللا» ظلت محتفظة بملامح «اللا» فـ«نعم» بوصفها انحيازاً كاملاً للثورة ومشاركة فيها هي كل أشكال النفي، كل أشكال «اللا» للواقع والحياة والقيم التي فرضها الإستبداد . لا يستطيع مثقف عضوي «لائي» الماهية أن يكون انتقائياً في علاقته بالتاريخ ، وبالتاريخ ا الراهن الذي تصنعه جملة «الشعب يريد» المعبرة عن عبقرية الشعب وقوته ويبقى «لائياً». المثقف بوصفه تلميذاً نجيباً عند التاريخ الصاعد، السائر، المتغير،المتحول نحو الأعلى، التاريخ الثوري، التاريخ بوصفه إمكانية تجدد وتجاوز المثقف هذا لا يقع في مطب الخيارات الزائفة التي يحاول البقالون الثقافيون أن يضعوه فيها . حين يسألون الأسئلة الزائفة هل أنت مع النظام الديكتاتوري أم مع الهينة الخارجية ا؟ الجواب لا مع هذا ولا مع ذلك وضد هذا وذاك. أو هل أنت مع النظام الحالي أم مع نظام أصولي قادم؟ لا مع هذا ولا مع ذاك. ضد السلطة المستبدة والأصولية مع نظام ديمقراطي مدني يحفظ سيادة الوطن والحق والمساواة والحرية.
موقف المثقف من الثورة موقف أخلاقي بامتياز، لأنه انحياز لأخلاق التحرر والحريّة والإنسان و المواطنة والكرامة وانتصار الذات انحياز لازدهار الحياة بعد أن «شرشحها» الطغاة من كل أنواع الطغاة . الثورات وهي تكنس التاريخ من الأوساخ التي تراكمت عليه عبر عقود من الزمن، تكنس المثقف البقال الأيديولوجي والمثقف الذي يدافع عن الظلام. الثورة اليوم تمنح المثقف الأخلاقي إحساساً عظيماً بوجوده الأصيل. تمنحه فرحاً ميتافيزيقاً لأنها تمرد الشعب على الوضع الكلي للإنسان، ليصنع معنى وجوده ويمنحها شكلاً من الخلق الجديد للحياة . تحطيم للقيم التي سعى النظام السياسي أن يجعلها قيماً دائمة، تحطيم قيم العبودية والخنوع والسرقة والقطيع والنعم الذليلة . الثورة تملي على المثقف درساً في التعين التاريخي للوطنية بوصفها حباً للوطن. لجمال تنوعه الخلاق، لطيران أبنائه أحراراً في فضائه، ورفضاً لأي قيد أو تمييز ،انتماءً للمواطنة بأعلى صورها الحقيقية . وتأسيساً على قولنا هذا فإن مهمة المثقف في بناء سوريا الجديدة مهمة كبيرة وجليلة وصعبة ، مهمة تأسيس الدولة الديمقراطية العلمانية ، دولة الشعب و الحق والحريّة ، إن النخبة الوطنية الثورية المثقفة ليست طرفاً في صراعات زائفة بل هي العقل الذي يجب أن يتعين في الواقع ، انهم روح التاريخ المتجاوز ،المتجاوز لكل الوسخ التاريخي أياً كان شكله ونوعه . عاشت سوريا وطناً للذوات الحرة .
أ.علي مسلم
اتسمت المرحلة التي سبقت انطلاقة الثورة في سورية بالتشوه الثقافي الى جانب التشوه الذي انتاب الجانب السياسي أيضاً، ولم يكن بمقدور المثقف السوري عموماً لعب اي دور ريادي والمساهمة في رسم ملامح مرحلة قادمة أكثر ايجابية وهذا يعود حسب قناعتي الى طغيان الجانب الانتهازي في شخصية المثقف وانتعاش التردد لديه حيث لجأ الى مداراة الواقع الاستبدادي الذي كان سائداً ابان مرحلة طغيان البعث السياسي وكان شغله الشاغل البحث عن موطئ قدم له بين كثبان الفساد والافساد بدل الالتفاف الى القضايا الجوهرية واداء الرسالة الثقافية المعتادة كجزء من رسالته الاجتماعية ، لذلك وجدنا أن المثقف كان غائباً على الدوام عن تفاصيل الثورة ويومياتها ولم يستطع ترك أية بصمة ولو ضئيلة في منحى الواقع الثوري العفوي الذي سيطر على المشهد المتحرك للثورة في بدايتها وهذا ما ساهم الى حد كبير في سطوة القوى الراديكالية المتشددة على كل المقدرات حيث كان من المفترض ان يكون هناك خطة ثقافية جدية ترفد قوى الثورة الاخرى وتساهم في رسم ملامح مرحلة جديدة ، وهذا لا ينفي بطبيعة الحال وجود أقلام ثقافية جديرة حاولت أن تلعب دوراً ما في الاتجاه الايجابي لكنها كانت متواضعة وضعيفة لدرجة لم تستطيع تسجيل ولو مواقف في مهب ما كان يجري . يضاف الى ذلك أن المثقف السوري الى جانب غيابه عن المشهد المتحول انحاز الى طائفته في الاطار الطائفي والى اثنيته في الاطار الاثني والقومي وهذا ما عزز غربته عن الواقع وبات بعيداً كما نرى عن ساحة الفعل والتأثير ولم يكن السياسي السوري أحسن حالاً كما شاهدنا أما موقف المثقف السوري من السلطات الجديدة لا يختلف كثيراً عما كان عليه في ظل سلطة البعث الاستبدادي وبقي يتخبط في اطار صناعة الولاء والانحياز إلى جانب المستبد القوي بحثاً عن مكرمة آنية أو ولاء هش ، عموماً لا يمكن للمثقف السوري وكذلك السياسي السوري المخضرم أن يلعب أي دور جدير في المنظور القريب وذلك لسبب بسيط وهو أنه من واكب مرحلة البعث وعاش في كنفها محاطاً بالمكرمة سياسياً كان أم مثقف لا يمكن باي حال من الاحوال أن يكون جديراً بلعب أي دور ولو هامشي في مرحلة الثورة .
أ.ادريس خلو
أستطاع المثقف فيما مضى من عمر الحركة الوطنية الكردية أن يكون العامل الحاسم في حالته الكردية ليؤدي المهام الملقى على عاتقه ,فكان هو الحامل والرافعة والحاضنة الثقافية والسياسية لمرحلة أتسمت بخصائص العمل السري فكان المثقف عرضة للأعتقال والملاحقة والتعذيب في فترة كان القابض على الهم الثقافي والسياسي كالقابض على الجمر, وليس خافياً أن النهوض الوطني والمعرفي الذي شهدناه في مراحل سابقة من عمر حراكنا السياسي والثقافي السري كان الفضل الأول والأخير يرجع الى المثقف فهو كان من واضعي مانيفستو الحياة السياسية ورفع السوية الثقافية الكردية بين الجماهير وتعبئتهم في صفوف النضال, وكان المثقف المنضوي أصلاً في صفوف الحركة هو بوصلة العامل والفلاح والطلاب في المدارس والجامعات هذ ا الدور المشهود للمثقفين ورموزهم على مدى أكثر من خمسة عقود لا ينكر بل يسجل لهم التاريخ في لوح محفوظ. وأذا كان المثقف هو أداة التغيير في أزالة البنى التحتية التقليدية من فكر وثقافة وعادات وقيم أجتماعية وسياسية عفى عليها الزمن ولا تتناسب مع روح العصر والمرحلة والأتيان بالبدائل العصرية التي تنهض بالمجتمع وتحقق له التنمية في كل مجالات الحياة فأن الواجب يتحتم على مثقفينا في روج آفا كردستان أن يقوموا بالمهام الملقى على عاتقهم وأن يتخلصوا من دورهم النقدي والتنظيري والأنتقال الى دورهم العضوي والعملي فالمفكر الأيطالي غرامشي يحدد بدقة ماهية المثقف الحقيقي في هذا المجال أذ يسرد ما معناه فيرى غرامشي ان كل البشر مثقفون بمعنى من المعاني ، ولكنهم لا يملكون الوظيفة الاجتماعية للمثقفين ، وهي وظيفة لا يمتلكها الا اصحاب الكفاءات الفكرية العالية الذين يمكنهم التأثير في الناس .. ومن هنا يستخلص الفارق بين المثقف النظري والمثقف العضوي .. الاول يعيش في برجه العاجي ويعتقد انه اعلى من كل الناس ، في حين ان الثاني يحمل هموم كل الطبقات وكل الجماهير وكل الفقراء والمحرومين والكادحين .. وعليه ، فان المثقف الحقيقي هو المثقف العضوي الذي يعيش هموم عصره ويرتبط بقضايا شعبه فالمثقف الذي لا يتحسس الام شعبه لا يستحق لقب المثقف حتى وان كان يحمل ارقى الشهادات الجامعية ,لأن المثقف الحقيقي لا يليق به أن يتمسك بالثقافة التبريرية والتشكي والهروب من الواقع والعيش في أبراج عاجية أو في عزلة نتشوية بعيدة عن الناس وهمومهم, كما لا يليق بمثقفينا المراهنة وأنتظار فشل الحركة الوطنية الكردية كشكل من أشكال التشفي, ناسياً بأن دوره التاريخي يحتم عليه أن ينتقل من عالم الرومنسيات في السيياسة الى واقع روج آفا كردستان حيث الحركة الوطنية الكردية لا تستطيع أن تفعل كل شيء بمفردها أمام الحالة الجديدة على أرض الواقع ,كما أن المتربصين بالحالة الكردية من التكفيريين والدول الأقليمية والرهاب الذي أصابهم من جراء ( الفوبوبيا الكردية) الصاعدة لنيل حقوقها المشروعة تقض مضاجعهم, كما أن الصراعات الدولية قد أفرزت وضعاً لصالح الشعب الكردي وقضيته العادلة ,كل ذلك يزيد من أعباء الحركة الوطنية و المثقفين بالدرجة الأولى ليكملوا دورهم التاريخي لأن المثقفين في عموم العالم وفي مختلف المراحل التاريخية عندما كانت شعوبهم تمر في المراحل المصيرية كانو يتخلون عن الصغائر ويتكاتفون مع حركاتهم الوطنية للوصول الى أهدافهم وأمانيهم لأن تاريخ الشعوب الطامحة الى الحرية تعلمنا بأن المثقف كان ينضال في الصفوف الأمامية من نضال شعبه في السلم والحرب .
أ.منير الخطيب
كان دور المثقفين في الثورة السورية هامشياً، يتصل ذلك بحزمة من العوامل: منها ما يتعلق بتبعية الثقافة للسياسة تاريخياً في بلادنا، وبخاصة تبعيتها للأحزاب الأيديولوجية التي ضمُر حسها العام، وفقدت الصلة مع الكونية والإنسية. فكان “المثقفون “أقرب إلى فقهاء السلطان، سواء كان السلطان سياسيأ أو مذهبياً أو إثنياً. لم تكن ” الثقافة ” في مرحلة البعث سوى فقه قومي وفقه إسلامي وفقه يساري، ولم تشهد سورية خلال الخمسين سنة الماضية بروز المثقف النقدي كظاهرة، سوى استثناءات قليلة بالطبع، ويؤشر هذا على ضعف الاستقلالية والفردانية لدى المثقفين السوريين. فاجأت الثورة السورية المثقفين، مثلما فاجأت غيرهم. وذلك، لأنها انفجرت مخالفة للصورة النمطية للثورة القابعة في الذهن الأيديولوجي الشيزوفريني. فلم تكن ثورة من أجل فلسطين أو من أجل الوحدة العربية، أو من أجل دحر الإمبريالية الأمريكية، بل كانت في مرحلتها السلمية ثورة من أجل الحرية وملاحقها. الحرية أولاً، وليس مهماً ماذا سيأتي بعد ذلك، وإن قدم الطوفان، وقد قدم فعلاً. قذفت الثورة في مرحلتها السلمية المثقفين مضافاً إليهم التعبيرات التنظيمية للمنظومات الأيديولوجية العصبوية إلى الرصيف. حيث تقدمت القيادات الشبابية الصاعدة الحراك السلمي المدني، وبدأ المجتمع السوري، يشهد، جدياً، نمو حاضنة مجتمعية لتشكل معارضة سياسية ذات طابع وطني. لكن النهج المتوحش للسلطة في الرد على الحراك السلمي والتدخلات الإقليمية والدولية التي تراكبت مع الانقسامات العمودية، وانفجار قيعان المجتمع السوري المتأخرة، إضافة لعوامل أخرى كثيرة، قاد كل ذلك إلى نكوص ثورة الحرية وحواملها الاجتماعية، وتقدمت القوى الهووية التي هي قوى حرب الجميع ضد الجميع، وما نجم عن ذلك من تدمير للسوسيولوجيا السورية، إضافة للتدمير العمراني والاقتصادي والبشري والنفسي. زادت الصراعات الهووية والتدخلات الدولية وانحدار السلطة من سلطة استبدادية مطلقة إلى سلطة تهيمن عليها المليشيات الطائفية المحلية والإقليمية، إضافة إلى حركة النزوح الكبيرة للفئات الوسطى وجيل الشباب وطلاب الجامعات والقوى المنتجة والمتنورة، زادت منسوب هامشية المثقفين السوريين: لقد كان صادماً لمشاعر السوريين وضمائرهم وتضحياتهم ودمائهم موقف الشاعر أدونيس، الذي تقبع في خلفيته عناصر مذهبية وعنصرية استعلائية ووعي مشوش ومضطرب، يكشف بدون مواربة حداثته السطحية. ويتبين موقف المثقفين الهامشي، أيضاً، من خلال كتابات الطيب تيزيني في سياق الثورة، فأستاذ الفلسفة هذا الذي صدّع رؤوسنا في مرحلة حافظ الأسد بمقولة الدولة الأمنية، لم أقرأ له خلال سنوات الثورة الخمس إلا بضعة مقالات تعد على أصابع اليد الواحدة وتتعلق بقضايا هامشية سطحية، تعكس بوضوح حالة شقاء الوعي عند النخبة السورية. أما الدكتور صادق جلال العظم، فلم يكتب شيئاً جدياً عن الثورة السورية، باستثناء مقولة ” العلوية السياسية” ، تيمناً بمقولة ” المارونية السياسية”. رغم أن الفارق بين المقولتين كبير جداً، بل أسطوري منهجياً وتاريخياً. أما المفكر الكبير جورج طرابيشي، وإن كان من غير الجائز وضعه في جراب واحد مع الثلاثة السابقين، فهو أقدر منهم جميعاً إبستمولوجياً وثقافياً، فهو منتج للمعرفة الحقيقية والثقافة الموسوعية، فلم يكتب شيئاً عن الثورة السورية. هذه عينات تعبر عن الوضعية المأزقية للمثقفين السوريين. أما فيما يتصل بمهامهم المستقبلية فأني أعتقد أنها يجب أن تتضمن المسائل التالية: 1 – الحفاظ على استقلاليتهم المعرفية والثقافية والقطع مع البنى الأيديولوجية المغلقة، والعمل الجاد لإنقاذ الثقافة من تبعيتها للسياسة، ورفع شعار الفكر في مواجهة الفقه. 2 – نقد وتفكيك المقدمات الإبستمولوجية للأيديولوجيتين القومية والإسلامية. فالحرب التي تشهدها سورية حالياً وطابعها المتوحش هو انعكاس للتوحش والبدائية اللذين يشكلان مضمون هاتين الأيديولوجيتين. ولم يعد من الجائز التعويل على إصلاح المذاهب الإسلامية، التي لن تنتج إلا زيادة الاجتهادات الفقهية عديمة المعنى. يجب الوقوف بحزم في مواجهة تسييس العروبة وتسييس الإسلام، فلم يجلب هذا التسييس إلا الكوارث لشعوب المنطقة. 3 – ضرورة الاستناد إلى الثقافة الكونية والإنسية، فهي الكفيلة بإقامة الحد على الفلكلور القومي والإسلامي ومقدماته المعرفية والأخلاقية. لن تكون هناك وطنية سورية بدون الكونية والإنسية. 4 – المساهمة في تشكيل مجال وطني سوري، فتهتك المجالين السياسي والاجتماعي بتأثير الحرب، يمكن للثقافة أن تسهم في تشكيل رافعة لإعادة بناءهما. 5 – يجب إقامة الحد أيضاً على مقولات المثقف العضوي والمثقف الملتزم والمثقف الطليعي …..الخ لا يزال احتمال الوطنية السورية احتمالاً ممكناً، للمثقفين السوريين دور وازن في بلورته رغم كل هذا الخراب العميم.
أ.ابراهيم اليوسف
دخلت ثورة السوريين عامها الخامس، بتراجيديتها التي نعرف، بعد أن تمت محاولات تحريفها من قبل القوى الكبرى الفاعلة، إذ باتت كل جهة من هذه الجهات تريد توجيهها، بحسب مصالحها الخاصة، ما أدى إلى تشعب المسارات المتضادة، و إغراقها بالمزيد من الدماء، بما يخدم ديمومة النظام المجرم في هذا البلد، ولو إلى حين، ناهيك عن المحاولات المتضادة المتوائمة، لتشويه اسم الثورة، وثوارها الحقيقيين، بإقحام من تعاملوا معها على غرار”بطاقة اليانصيب”، وهم أحسن حالاً ممن اخترقوها، بغرض وأدها، أو حتى ارتكاب الجرائم باسمها، وما أكثرهم…! وبعيداً عن الاسترسال في تشخيص تفاصيل هذه اللوحة، ضمن جغرافياها المسماة، سايكسبيكوياً: سوريا، مهاد إحدى أكبر المجازر المستديمة، في العصر، فإن الاستقراء السياسي بدا عاجزاً أمام ما حدث، لاسيما أن السياسات العامة التي باتت دائرتها تتوسع منطلقة من- استنبول- ومن ثم تجاه عناوين عربية معروفة-على نحو معلن-باتت تقابل بمراكز أخرى غير معلنة، سرعان ما انكشفت أوراقها، لتظهر تمحورات عدة، دولياً، أبرزها القطبان المتظاهران بتناقضهما، إزاء هذه اللوحة، إلى جانب من لاذ بنعمة الصمت، في تواطئيته، دون أن يختلف في المحصلة عمن أطلق الشعارات الرنانة، تحت هذا الإطار، أو ذاك، وكانت الخطوط الحمراء أحد تجليات هذا الزعم غير المترجم ولو جزئياً، و فوجىء السوريون، جراء هذه المعادلة الصعبة، ذات الأطراف المتضاربة، بفتح حدودهم أمام قتلة مأجورين، أو مغرر بهم، ليدفع رسام هذه السياسات بضحايا لا يمتون له بصلة-بل من يشكلون خطراً حالياً أو مستقبلياً عليه- يقتلون، ويقتلون، على مسرح ليس لهم جميعاً أية علاقة به، ولتكون ضريبة أبناء المكان أفدح، وأقسى، وآلم. كل هذه الضريبة الكبرى من أرواح السوريين، ودمار البنية التحتية لبلدهم، كأعظم ندوب في تاريخهم، لا يمكن لها أن تلتئم، رغم محاولات إشغال مسارح الدمار الشامل-عادة- بخرافة-إعادة الإعمار- التي هي-إعادة استعمار- في الأصل، مادام من يتم الإعمار من أجله، راح ضحية آلة القتل، وأجنداتها، وهو ما يقود للسؤال: ما فائدة إعادة إعمار منزل -تهدم على كل رؤوس كل ساكنيه- وآخر انفضَّ عنه ساكنوه ليكونوا ضحايا سجلات اللجوء التي هي- بحد ذاتها- شكل من أعظم أشكال الحروب على أبناء المنطقة عموماً.
أجل، نحن هنا، أمام سؤال إشكالي، لكنه-في المحصلة- ليس إلا امتداداً لحالة أعمّ، مرسوم، ومخطط لها، من قبل الدوائر الفاعلة: كبرى، ووسطى ،وصغرى، فيروسية -ميكروية أيضاً- ، في آن معاً، ما جعل نقاط الدماء التي سالت في فضائها الآذاري، قبل أربع سنوات مستمرة حتى الآن، وكأن لا سبيل لإيقافها البتة، في الوقت الذي يتم المضي إلى الأسئلة التهريجية الموازية حول تأمين الإغاثة للسوريين، والتركيز على إيصالها-ودون أن تصل إليه- داخلاً وخارجاً، ناهيك عن صرف الأنظار ، وعقد الآمال على ملهاة أخرى حول تدريب السوريين، على مديات بعيدة، وسوى ذلك، وهي جميعها محاولات بهلوانية تندرج ضمن إطار تحويل الأنظار عن القضايا الرئيسة إلى الثانوية، بغرض شرعنة الدمار والقتل، وإشغال السوريين، والرأي العام بالنتائج، لا بالأسباب، وبما هو نافل، ناتج أصلاً عن القضايا الكبرى المعروفة، متجسدة في استمرارية الدكتاتور، وغض النظر عن دعمه الدولي والإقليمي، بل واستمرارية قتل السوريين ودمار بنيتهم التحتية، حيث تكمن هنا محنة التراجيديا السورية. لقد أسقط الأمر بين يدي مثقف هذا المكان، وبدا أعزل من قوة خطابه، في تحليل الواقع، إذ بات يركز على القضايا اليومية- فحسب- ماعدا ما يقوم به قلة من الكتاب والمفكرين، وقد ازداد الواقع إرباكاً ليس من خلال إحداث الشرخ الثقافي، على أساس:المعارضة والموالاة، بل من خلال الشروخات الهائلة التي تمت لدى مثقفي المعارضة، أنفسهم، انطلاقاً من دواع كثيرة، أبرزها عامل المنفعة، كما أن هذه التحولات الخطيرة التي طرأت للثورة، جاءت عبرإقحام مرتزقة الأرض هنا وهناك، وفق اتفاق بين النظام السوري، والقوى المؤثرة، وتقاسم هؤلاء الإرهاب مع النظام، بما يدفع للوهم، من قبل المواطن السوري البسيط، بأفضلية النظام عليهم، في الوقت الذي تم فيه طمر وجه الجيش الحر، بعد تدبير خطف الضابط حسين هرموش، وتسليمه إلى النظام السوري، وسكوت تركيا على هذا الملف، بل وتواطؤ المعارضة السورية، متمثلة بالمجلس الوطني السوري بعدم إثارة هذا العمل الإجرامي الذي ضلعت فيه-بحسب أسرة الضابط هرموش – أجهزة الأمن التركية، بامتياز، وكان في مقدور المجلس الوطني السوري اللجوء إلى طرق كثيرة لاسترداده، وفك أسره. وإذا انطلى على المثقف السوري، بشكل عام، أن ينشغل بالتفاصيل وحدها، في أحسن أحواله، ماعدا استثناءات طفيفة- مع الاعتراف بأن يرصد ما هو جزئي من الأولويات- دون التجرؤ على تحليل لوحة بلده، واستشفاف الآفاق، نظراً لتشابك الخطوط، وتعقدها، إلى حد معضليتها، فإن ذلك جاء في إطار عطب دوره، ليغدو نوَّاحاً، بكَّاء، فلا يسمي الأمور بأسمائها، ومن بين ذلك عدم نقده المعارضة السورية، لاسيما بعد أن غاصت في لعبة تقبل الربت والرتب والمرتب، وما يترتب على ذلك من استحصال مزايا فردية تدعو إلى السكوت، عما يتم من انتهاكات إقليمية، ودولية، بل و خليجية، وعربية،هنا وهناك. وإذا كان هذا حال ما يقارب ثلث المثقفين السوريين، فإن ثلثي المثقفين بدوا صامتين، معطوبي الدور، مشلولي الإرادة، سلبيين، وراح من بينهم جميعاً من يسوغ صمته، من خلال مآلات الثورة، بعد محاولات تشويهها، واعتبار أنها كانت هكذا منذ انطلاقتها، وهو جهل بين بتاريخ وظروف انطلاقة ثورة الكرامة السورية.
ولعلنا نجافي الصواب، أثناء تحليلاتنا لأسباب نكوص الثورة السورية، وتأجيل انتصارها بعد أربع سنوات من عمرها، عندما نوزع الأوزار على الساسة على تدرج مسؤولياتهم-وهم مفتاح اختراق الثورة وتيهها وفقدان بوصلتها- باعتبارهم مسؤولين عن الخروقات الاستراتيجية التي تمت، في مجال التحرك السياسي، والعسكري، والإغاثي المدني إلخ….، من دون أن نوزر المثقف الذي كان عليه أن يكون صارماً، تجاه ما يحدث، وإن كانت هناك أسباب مخففة لتخطئته تعود إلى تاريخ دور هذا المثقف-بشكل عام- حيث اشتغل النظام على عزله، وتكبيله، وتهميشه، ما جعله نفسه لا يثق بفحوى خطابه، إلى الدرجة التي بات يحتاج إلى تزكية مستمرة من رجل السياسة، وهذا-تحديداً- وراء عطالة دوره على امتداد هذه السنوات الأليمة في تاريخ بلده.
تعدُّ الحاجة إلى”المثقف” قديمة، منذ بداية التاريخ الإنساني، وحتى الآن، وهي- لابد- ستستمر، طوال وجود الآدمي، حيث أن المهمات الملقاة على كاهله، جدُّ كثيرة، إذ لا يمكن التحدث عن أي إنجاز حضاري، ماضياً، وحاضراً، ومستقبلاً، من دون أن يكون له حضوره الواضح، وبصمته الواضحة، لأنه- وبحق- أحد محركي دورة الحياة، ولا يمكن الحديث عن أي نوع من الوعي، إلا وكان هو عبر حدسه المستوفز، وجهوده الكبرى، صانعاً له، وفي هذا ما يبين لنا منزلته الحقيقية، وإن كان لابد من الاعتراف-هنا- أن هذا المثقف، لم يكن بإمكانه- البتة- تحقيق أي نجاح، طوال الشريط الزماني لتواجده، لولا من هم حوله، حيث لكل منهم دوره الخاص، في البناء، وديمومة الحياة، وتطورها، وتقدمها. وتبدو الحاجة إلى- المثقف- جد كبيرة أثناء الشدائد والمحن، حيث تتطلع إليه-الأنظار- أنى كان، كي يؤدي الدور المعول عليه، ولعل في مطلع ذلك قراءة المشهد العام من حوله، لاسيما في تلك اللحظة التي يتم من خلالها هيمنة ما يمكن وسمه ب” عمى الألوان”، وهي حالة باتت تظهر للعيان، منذ تحقيق ثورة التكنولوجيا فتوحاتها الكبرى على امتداد رقعة مسرح العالم، إذ عليه، أن يوظف كل طاقاته، من أجل ممارسة الدور الوظيفي العضوي المنوط به، على أكمل وجه. ولعلنا نستطيع متابعة الخط البياني، لدور المثقف في الحياة، بعد أن مر بمراحل عدة، إلا أنها جميعها تتمحور ضمن فضائين، أحدهما: بسيط، وثانيهما مركب، وقد بلغت هذه الحالة المركبة أخطر محطة على الإطلاق، في ظل التعقيدات التي ظهرت على حين غرة، فالمرء لم يعد صاحب ذلك الذهن الصافي، والمنصرف إلى دائرة شؤون ضيقة، تنوس بين شخصه، وبيته، وقلة من محيطه الاجتماعي، بل إن دائرة اهتمامه باتت مفتوحة على سعة الثلاثمئة والستين درجة، بلغة العلم، لأنه ما من صغيرة أو كبيرة، تجري على منصة مسرح العالم، إلا وكانت له علاقة بها، بحيث أنه معني بالإنجاز الكوني، كما أنه معني- في اللحظة ذاتها- بأية شائبة في هذا المحيط، مترامي القارات، والأطراف، كي يكون على أهبة الاستعداد للتفاعل مع كل ما يدور في عالمه، وهو تحد في منتهى الصعوبة، والحساسية، والإجهاد، والمعاناة، تتطلب استنفاره، بعد أن غدا ذلك المثقف الكوني، العضوي، الفعال ولو افتراضاً. أجل، إنها لمهمة شاقة، ملقاة على كاهل المثقف، وهي تتطلب توفير أدوات جديدة، بين يديه، حتى يستطيع أداء كل ذلك، بالشكل المطلوب، وفي مقدم ذلك إعادة النظر في حضوره، وخلق ذلك المناخ المناسب لممارسة وظيفته، على أكمل وجه، وإن كان من شروط ذلك، أن ينطلق من الدائرة الضيقة، المحيطة به، إلى الدائرة الأرحب، بل إن أي قفز فوق واجباته، ضمن حيزه الجغرافي الخاص، يغدو غير مسوغ، مهما أخلص في اشتغاله على النطاق الأوسع، إذ ليس من الحكمة أن ينسى المرء أسئلته، وأسئلة بيته، وينصرف إلى الأسئلة الكبرى، لأن الانشغال بمثل هذه الأسئلة الكبرى ليعد هروباً، لاسيما في ما إذا كانت هناك أكلاف، لتناول ما هو متعلق بالمحيط، الخاص، وهو ما بات يبدو الآن، على أشده، من قبل من يتصامم عما هو مطلوب منه، على صعيد اتخاذ الموقف، المطلوب منه، بجرأة، وبسالة، ما يجعل المثقف-الآن- أمام مسؤوليات خطيرة، لابد من أن يواجهها، بكل أدواته المعرفية، لإطلاق حكمه التقويمي فيها، وفق إخلاصه لمنابعه المعرفية والأخلاقية، على حد سواء
د.منذر خدام(نص لمقالة نشرت عام 2013)
رعاع تستخدم كلمة ” رعاع ” للدلالة على القاع الاجتماعي، لتوصيف اولائك الذين تحركهم غرائزهم وليس عقولهم، ويتميزون بميل واضح نحو الفوضى والعنف. في الحقل السياسي كثيراً ما تستخدم كلمة ” رعاع ” من قبل القوى الاجتماعية المسيطرة وأيديولوجيها لتوصيف القوى المجتمعية المهمشة، التي تقع عند الحدود السفلى للطبقة العاملة، والتي جرى تعيينها في الأدب الماركسي بمصطلح “البروليتاريا الرثة”. يبرز حضور ودور ” الرعاع ” بصورة خاصة في حالة الأزمات المجتمعية الحادة، وما ينجم عنها من انتفاضات واسعة، أو ثورات، وتكون في حالات كثيرة أدواتها غير الواعية. بهذا المعنى والاستخدام فإن كلمة “رعاع” تتجاوز حدود التعيين الطبقي الماركسي لتشمل فئات اجتماعية واسعة دفعت بها الصراعات الطبقية والاجتماعية، وإزاحة التكنولوجيا للعمل الحي من دوائر الإنتاج، بل الاستخدام، نحو القاع لتعيش فيه حالة من التهميش، تجعلها تتصرف بطريقة غرائزية محكومة بفكر يومي مبتذل. في اللغة كلمة “رعاع ” تعني “سفلة القوم “، أو أولائك الذين ” لا عقل لهم ولا قلب”. بهذا المعنى فإن كلمة “رعاع ” لا تتعين من خلال من هم في القاع الاجتماعي طبقياً، بل من خلال من هم في مختلف المواضع المجتمعية. ويبدو لي، من خلال الحالة السورية، أن الرعاع هم الأكثر حضورا في الحقلين الثقافي والسياسي، وهم الأشد خطراً على الوطن والدولة والشعب والثورة، لأنهم يمارسون رعاعهم بوعي وهدف سافلين، أي بلا “عقل وقلب”. فعندما ينتقل مثقف ماركسي عبر مختلف التنظيمات الماركسية المحلية ليصير طائفيا فجاً بامتياز يكون قد تتطور نحو وضعية الرعاع. وعندما يتحول فيلسوف لطالما أتحفنا بتنظيراته الناقدة للفكر الديني، إلى مجرد داع طائفي، يكون قد صار من الرعاع. هذه الحالة تشمل قائمة واسعة من المشتغلين في الحقل الثقافي في سورية، إذ بدلا من أن يستخدموا أدواتهم الثقافية في إنتاج فهم صحيح بما يجري في سورية، نجدهم قد تخلوا عن وظيفتهم ودورهم ومسؤوليتهم، وتحولوا إلى مروجين للعنف بصورة عامة، وخصوصاً العنف الطائفي منه على وجه الخصوص، سواء من خلال كتاباتهم، ومواقفهم، أو من خلال علاقاتهم العامة. فبدلا من أن تدفعهم مشاهد القتل والتنكيل بالسوريين، سواء من قبل قوات النظام وشبيحته، أو من قبل قوات المعارضة المسلحة، أو مشاهد التدمير للبلد، وبنيته التحتية، والاقتصادية، ومنشآته العمرانية، إلى الدعوة إلى وقف العنف، والقبول بالحلول السياسية، نجدهم يدعون وبحماس إلى استمرار الصراع حتى ” أخر سوري” وآخر بيت. لقد صار العنف والترويج له عنوان الدور الجديد الذي يؤدونه، إنه عنوان تحولهم إلى رعاع بامتياز، خصوصا بعد أن صاروا في مأمن منه، مع عائلاتهم وأولادهم. حالة الرعاع نجدها أكثر حضوراً عند السياسيين، والإعلاميين، وبعض المشتغلين في مجال حقوق الإنسان المعارضين، فعندما تخلى هؤلاء عن الدور والوظيفة المحددة لكل منهم بحسب طبيعة عمله الأساس، وصار مجرد ديماغوجي، وداع حربي، ومروج للعنف، يكون قد تخلى عن عقله وقلبه، وتحول إلى وضعية الرعاع. إن السمة البارزة على انتشار حالة “الرعاع” في أوساط السياسيين السوريين هو تخليهم عن أدوات التحليل السياسي للواقع الملموس، وبناء مواقفهم على حساباته،لصالح تأسيس السياسة على الرغبات والأمنيات، وخصوصاً على الكراهية والانتقام. ومن المبكي في هذا المجال أن يقوم تبريرهم لانحيازهم إلى جانب العنف على أساس القول بأن الثورة لا تكون بدون عنف، حتى ولو كان هذا العنف سوف يذهب بالبلد والناس إلى التدمير. إن الوضعية الصفرية، بل مادون الصفرية، التي روج لها أحد جهابذة المعارضة بالعلاقة مع اجتياح القوات الأمريكية للعراق، تسود اليوم في أوساط كثير من السياسيين المعارضين السوريين للأسف. بالنسبة لهؤلاء فهم لا يشعرون بأي حرج، من أجل تحقيق هذه الوضعية، الاستعانة بكل من يستطيع تغذية العنف، بغض النظر عن أهدافه الخاصة المباشرة أو البعيدة، بل وبغض النظر عن كل مطالب الشعب بالحرية والديمقراطية التي يزعمون أنهم من دعاتها والعاملين عليها. تبدو حالة “الرعاع” التي تتخبط بها المعارضة السياسية والعسكرية السورية، أكثر بروزا من خلال الفوضى التي تتحكم بها وعدم قدرتها على التوحد، أو في الحد الأدنى التنسيق فيما بينها، رغم ما تدَّعيه من وحدة الهدف، وهو إسقاط النظام الاستبدادي، من أجل بناء نظام ديمقراطي بديل. من هذه الناحية تبدو المعارضة مبدعة في رعاعها، فهي ليس فقط تجيد الفرقة، بل تجيد أيضاً الانحطاط إلى مستوى تكويناتها الأهلية، وإعادة إبراز دورها في الحقل السياسي، وجعل حضورها حاسماً في الديمقراطية التي تدعو إليها. إن تحول بعض المعارضة السياسية الغالب إلى دكاكين تتاجر بدماء السوريين، وتعتمد سياسة تخوين بعضها لبعض الآخر، بل ورهن إرادتها السياسية لمن يدفع أكثر، أي العمل حسب الطلب، لهي من سمات الرعاع بامتياز. واليوم، مع الإعلان عن المبادرة الروسية الأمريكية المشتركة لعقد مؤتمر دولي يهيئ لحل سياسي تفاوضي ينهي الأزمة في سورية، ويحقق للشعب السوري مطالبه في الحرية والديمقراطية، بدأت طبيعة الرعاع المتحكمة بكثير من المعارضين مستنفرة لتفشيل هذا المسعى، تحت دعاوى من قبيل ” لا يمكن الجلوس مع الجلاد”، أو ” لا يمكن القبول بذلك قبل تنحي الأسد وأركان حكمه أولاً”، وغير ذلك من المطالب التعجيزية. تحضرني بهذه المناسبة نصائح السفير البولوني المستوحاة من تجربة بلده خلال عمليات التحول إلى النظام الديمقراطي، إذ قال ينبغي أن تدركوا أن النظام السابق ليس مجرد شخص هنا، وشخص هناك، إنه أجهزة الدولة بكاملها، ولكي نضمن عدم انهيار الدولة، عملنا إلى الاستفادة من السلطة القائمة للمساعدة في التحول إلى النظام الديمقراطي بأقل الخسائر، لذلك وافقنا على مشاركتها في المرحلة الانتقالية، ومنحناها الأغلبية في مجلس الوزراء. الشيء الذي لم نساوم عليه هو إعداد دستور ديمقراطي حقيقي، وجميع القوانين المكملة له، وإجراء انتخابات نزيهة وشفافة ومراقبة دولياً، وهذا ما حصل. وعندما جرت الانتخابات هزمنا السلطة السابقة وضمنا ولاء أجهزة الدولة إلى النظام الجديد. وفي “رسالة مانديلا ” للثوار العرب يعرض فيها كاتبها دروسا بليغة في السياسة والحكمة، مستوحاة من تجربة جنوب أفريقا في الانتصار على نظام الفصل العنصري، وإعادة تكييف العنصريين السابقين بما ينسجم مع النظام الديمقراطي الجديد، وهذا ما حصل. عندنا لا يرضى كثير من مثقفينا وسياسيينا أقل من القضاء على النظام السابق، حتى ولو انهارت الدولة، حتى ولو تمزقت سورية إلى دويلات طائفية، أو إمارات حرب متصارعة، حتى ولو تحالفوا مع إسرائيل، حتى ولو طلبوا المساعدة منها في تحقيق ما يرغبون، لكنهم عاجزون عن تحقيقه، إنهم حقيقة بلا عقل وبلا قلب، ببساطة إنهم رعاع.