في 7/5/2014، وأثناء حضوره حفل إفطار جمعه برؤساء منظمات المجتمع المدني في مدينة مرعش، جنوب شرقي تركيا، قال «زعيم» حزب «العدالة والتنمية» ورئيس الوزراء التركي، البروفيسور أحمد داود أوغلو: إن أحداً لن يستطيع إدخال تركيا في دوامة العنف التي تعصف بالدول المجاورة لها… ولن يجرؤ على ذلك أحد. سنحقق السلام الداخلي، ونضمن النظام العام، وسنستمر بإصرار في عملية السلام». وفي 7/9/2015، تعهّد أوغلو الإصرار على الحملة العسكريّة الهادفة إلى «القضاء على العمال الكردستاني، مهما كلّف الأمر».
وفي 9/9/2015، أعلنت السلطات التركيّة، أربع مناطق تابعة لولاية دياربكر (آمد)، هي فارقين ولِجه زوولب ودجلة مناطق عسكريّة مغلقة، نتيجة المعارك والاشتباكات بين الجيش التركي ومقاتلي «العمال الكردستاني» التي حصدت أرواح العشرات من الجانبين. وبقيت مدينة جيزرة تحت الحصار والقصف التركي لما يزيد على الأسبوع، فسقط العشرات من المدنيين بين قتيل وجريح. وقتل شرطي في محافظة ديرسم، كما قتل 14 آخرون يوم 6/9/2015 في محافظة هكاري، جنوب شرقي البلاد بنيران «الكردستاني».
عزا الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، ازدياد هجمات «الكردستاني» مؤخراً إلى «حالة الهلع التي أصيب بها الحزب الكردي، نتيجة تكبـده خـسائـر فـادحة، جراء العمليات العسكريّة التركيّة»!. وذلك في تصريح له، أثناء اجتماعه بوزير التعليم العالي، نشرته وكالة «الأناضول» الرسميّة للأنباء، يوم 8/9/2015. وهنا، يبدو تبرير أردوغان مضحكاً أكثر من كونه غريباً!.
في اليوم نفسه، ذكرت مصادر عسكرية تركيّة للوكالة نفسها أنه في 8/9/2015، شنّت 35 طائرة حربيّة تركيّة من طراز F16 هجمات على معاقل «الكردستاني» داخل الأراضي العراقيّة، و»كبّدتها خسائر فادحة في الأرواح»!. والحال أن استخدام الجيش التركي 35 طائرة من هذا النوع، وفي هجوم واحد، لا يكون إلا ضدّ جيش تابع لدولة عظمى، لا ضدّ حزب يمتلك بضعة آلاف من المقاتلين!.
قياساً على ما سلف، يمكن تلخيص الراهن التركي في النقاط التالية:
1- تركيا تعيش حالة حرب حقيقيّة، مرشّحة للتصعيد والاتساع، ما يعني أن التصريح الذي أدلى به أوغلو يوم 7/5/2014، ثبت بطلانه. فالحكومة التركيّة لم تبق على إصرارها المضي في عملية السلام مع «الكردستاني»، ولا استطاعت تجنيب البلاد ما تشهده البلدان المجاورة لتركيا!.
2- مع حالة الشحن والاحتقان القوميّة المتزايدة بين الأكراد والأتراك، والتي عبّرت عن نفسها بهجمات المتطرّفين الأتراك على مقارّ «حزب الشعوب الديموقراطي» الموالي للأكراد، تظهر حالة احتقان وشحن آخر بين الإسلاميين والعلمانيين، عبّرت عن نفسها في هجوم موالين لأردوغان على مقر صحيفة «حريّت» العلمانيّة، وهجوم علمانيين وقوميين متطرّفين على مقر صحيفة «صباح» الموالية لأردوغان وحزبه. ما يعني أن النسيج الاجتماعي التركي على حافة التمزّق، بين الأكراد والأتراك، وبين الأتراك أنفسهم.
3- أردوغان وفريقه الحاكم يدخلان حرباً ضد أكراد تركيا، وليس فقط ضدّ «العمال الكردستاني». ولكن هذه المرّة، بظهر مكشوف. إذ لم يترك أردوغان حليفاً أو صديقاً أو تيّاراً سياسيّاً مختلفاً معه، إلاّ وعاداه. فلا هو متصالح مع حزب السعادة (رفاقه القدامى في حزب الفضيلة الإسلامي المنحلّ)، ولا مع أحزاب المعارضة العلمانيّة والقوميّة التركيّة، ولا مع الحزب الكردي الذي لديه 80 مقعداً في البرلمان.
تضاف إلى ذلك حالة العداء الشديد المتنامية بين أردوغان وحزبه وبين حليفه السابق، الداعية فتح الله غولن، المقيم في أميركا. وبالإضافة إلى الخلافات بين أردوغان وعبدالله غل، بدأت خلافات جديدة تنشب بين الأوّل وداود أوغلو، ولن يطويها مؤتمر «العدالة والتنمية» الأخير يوم 12/9/2015، حيث أحكم أردوغان قبضته جاعلاً أوغلو مجرّد واجهة.
زد على ما سلف، أن لا أميركا ولا أوروبا تقفان إلى جانب أردوغان وحزبه في حربهما على أكراد تركيا و»الكردستاني»، كما كان يجري في الحملات العسكريّة السابقة التي تشنّها تركيا.
والسؤال هنا: لماذا يريد أوغلو – أردوغان إدخال البلاد في حرب أثبتت ثلاثة عقود بأنها كانت خاسرة وفاشلة؟!. غالب الظنّ أن قادة «العدالة والتنمية» يراهنون على نتائج الانتخابات المقبلة في 1 تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل، وذلك بأن يقحموا المناطق الكرديّة في حرب ضروس، تحرم الناخب الكردي الإدلاء بصوته لحزب «الشعوب الديموقراطي» كيلا يجتاز عتبة الـ10 في المئة التي تخوّله دخول البرلمان، ما يعني فقدانه 80 مقعداً برلمانياً تذهب إلى «العدالة والتنمية»، معطوفة على أصوات القوميين الأتراك.
هكذا يخرج حزب أردوغان منتصراً، ويشكّل الحكومة بمفرده، ما يكفل تحصين وضع الحزب بالدرجة الثانية، ووضع أردوغان بالدرجة الأولى، من أية مساءلة قانونيّة، حول ملفات كثيرة، أبرزها قضايا الفساد وهدر المال العام وسوء استخدام المنصب في حال تشكّلت حكومة تركيّة جديدة، لا يكون «العدالة والتنمية» طرفاً فيها. ذاك أن العكس يعني احتمال حلّ وحظر الحزب وسجن قادته، خصوصاً أنه تعرّض لتنبيه المحكمة الدستوريّة عام 2008.
وهكذا فبين إصرار أوغلو على السلام، وإصراره على الحرب، ووسط غطرسة أردوغان واستبداده، تبدو محنة أوغلو كبيرة وصعبة للغاية. فهو، لا أردوغان، من يتحمّل مسؤوليّة ما يجري في البلاد، لأن الأخير، قانونيّاً، غير معني بقرار الحرب والسلم، وغير مسؤول عمّا يجري في تركيا، في شكل مباشر.
إن تركيا تعيش أزمة سياسيّة، دستوريّة، عسكريّة، اجتماعيّة… معقّدة ومركّبة، المسؤول عنها الحزب الحاكم، وقادته. هذه الأزمة، إن لم توجد حلول جديّة وناجعة لها، فإنها لن تطيح بالحزب الإسلامي الحاكم وحسب، بل ربما نقلت سيناريو الحرب الأهليّة والتقسيم من العراق وسورية إلى تركيا أيضاً.
هوشنك أوسي