سورية وأهميّة التحرّك السعودي – التركي

لسنا مطلعين على ما تم التوافق عليه فعلاً بين الأميركيين والروس حول سورية، لكن المعطيات والتصريحات وطبيعة الاتصالات وكثافتها، كلّها تدفعنا نحو الإقرار بحصول توافق ما. ويبدو أن هناك أفكاراً روسية حول تثبيت هذا التوافق وترسيخه، عُرضت على الوزير جون كيري في فيينا، وسيقوم هذا الأخير، كما صرح في المؤتمر الصحافي المشترك مع لافروف ودي ميستورا للإعلان عن بيان اجتماع فيينا الثاني الموسّع، بنقلها إلى الرئيس أوباما، لدراستها، واتخاذ الموقف منها.

لكن الأمر الواضح أن التلكؤ والتردّد الأميركيين يمهّدان الأرضية أمام اندفاع روسي يسعى الى امتلاك زمام المبادرة في سورية على مختلف المستويات، ولدى مختلف الأطراف. فالتدخل العسكري الروسي مستمر. وقد بيّن بوتين للجميع أن الأسد في متناول اليد حين الطلب. كما أن تواصل الروس مع المعارضة التي تتناغم مع أهوائهم مستمر. وفي الوقت ذاته، يغازلون بعض الفصائل الميدانية في إطار سياسة التفريق والاحتواء التي أثبتت جدواها بالنسبة إليهم، بخاصة في ميدان التعامل مع بعض الباحثين عن أي دور وبأي ثمن.

ولم يكتفِ الروس بذلك، إذ لديهم حرص مستمر على توجيه الانتقادات العلنية الى الموقف الأميركي في خصوص سورية، وذلك لجهة عدم الجدية في التعامل مع ملف الإرهاب الداعشي، أو لجهة التدخل العسكري بعيداً من شرعية الأمم المتحدة وموافقة بشار الأسد. وهذا ما حرص لافروف على تأكيده في المؤتمر الصحافي المشار إليه، ومن دون أية ردة فعل واضحة من جانب الوزير كيري، الذي تعامل مع الموقف برمته وكأنه في ندوة أدبية مخمليّة. وقد برز ذلك بوضوح حينما ذكر أنه قد توافق مع لافروف على الاختلاف، في شأن الموقف من بشار الأسد. لكن الكياسة الزائدة دفعت به مراراً، نحو ما يشبه التماهي مع الموقف الروسي، وهذا في حدّ ذاته يؤكد ضرورة معرفة طبيعة التوافق الأميركي- الروسي، وحدوده بالنسبة إلى سورية، بخاصة إذا وضعنا في اعتبارنا تصريحات المسؤولين في الاستخبارات الفرنسية والأميركية أخيراً، حول التحوّلات التي ستشهدها الجغرافيا السياسية الشرق أوسطية.

لكن السياسة تبقى في جميع الأحوال خاضعة للتطورات الميدانية، وتداخل المصالح وتبعاتها، هذا إلى جانب قدرة عوامل المقاومة الداخلية السورية على رفض أي مشروع حلّ مفروض، لا يراعي تطلعات السوريين وتضحياتهم. وهذا ما يميّز الطبيعة النسبية الخاصة بالسياسة، مقارنة بتلك الإطلاقية التي تتّسم بها الأيديولوجيات الدينية التي يعمل أصحابها على تغيير الوقائع لتأتي مطابقة لما في أذهانهم. إلا أن التغيير في الخطط والتوافقات أو التفاهمات السياسية يستوجب وجود إمكانات لوجستية ومادية على الأرض، من شأنها تغيير المعادلات، بل قواعد اللعبة بأسرها.

وهنا يبرز دور القوى الإقليمية صاحبة المصلحة الاستراتيجية في إنقاذ سورية، من الاحتلال الإيراني والجماعات التابعة له. ونشير هنا في صورة خاصة، إلى السعودية وتركيا المعنيتين بالوضع السوري أكثر من الجميع، وذلك لاعتبارات جغرافية وتاريخية وسكانية واستراتيجية، آنية وبعيدة المدى.

فالسعودية بما تمتلكه من رمزية عربية إسلامية، وحكمة وتجربة وقدرات مادية، مؤهلة لأداء دور فاعل حاسم في ميدان التأثير في الموقف الأميركي نفسه عبر التفاهم مع الشركاء الأوروبيين، بخاصة فرنسا. كما أنها قادرة في الوقت ذاته، على توحيد الجهد السوري المعارض، ودعمه، وهي ستستفيد في هذا الميدان من التجربة القاسية للسنوات الأربع المنصرمة التي كشفت عن جميع الزوايا الميتة، وبيّنت حقيقة إمكانات ومصداقية وتوجهات مختلف القوى ضمن المعارضة، الأمر الذي من شأنه أن يسهّل إمكان التوحيد والتنظيم، ليرتقي الفعل المعارض إلى مستوى التحديات.

أما تركيا، فإن موقعها الجغرافي وارتباطها بحدود برية مع سورية تمتد على طول أكثر من تسعمائة كيلومتر، وإمكاناتها الاقتصادية والعسكرية، إلى جانب دورها المهم في الناتو، ذلك كله يمكّنها من التأثير الفاعل في الحالة السورية، لكن بالتوافق والتنسيق الكاملين مع السعودية. وهذا ما سيكون في مصلحة الشعب السوري أولاً، وفي مصلحة المنطقة بأسرها، عبر إعادة التوازن إلى المعادلات الإقليمية المختلّة.

ومن دون هذا التوافق الاستراتيجي السعودي – التركي الحيوي والمطلوب، ستظلّ حظوظ السيناريوات الأسوأ هي الأوفر، وسيستمر الروس في استغلال الانكفاء الأميركي (بخاصة في السنة الانتخابية التي تشغل عادة الإدارة والمجتمع الأميركيين أكثر من أي شيء آخر) بخبث وشراهة، وسيتم التنصّل من توافقات جنيف 1. والقراءة الأولية لبيان فيينا الموسّع توحي بأن معالم هذا التنصّل بدأت تلوح في الأفق. وهذا فحواه أننا سنكون أمام صراع طويل عنيف، يستنزف مزيداً من الطاقات البشرية والاقتصادية ويفتّت سورية وطناً وشعباً. ولن تكون نتائج ذلك مقتصرة بطبيعة الحال على سورية وحدها، بل ستمتد إلى دول الجوار الهشّة بحكم ممارسات القيادات، والبنية السكانية والتدخلات الإيرانية.

والعالم الغربي هو الآخر لن يكون في مأمن، لأن زخم سيل اللاجئين سيكون أشدّ على صعيد الأعداد والعوامل.

فلقاءات فيينا ستستمر، وربما نشهد ما بعد فيينا. لكن في جميع الأحوال، ستظل هذه اللقاءات عبثية غير مجدية إذا ما ظلّ الموقف الأميركي متردداً وحائراً ومجاملاً، وهو على الغالب سيظل كذلك في السنة الأخيرة من عهد أوباما، في مواجهة النزعة الروسية الرامية إلى شرعنة نظام ارتكب كل جرائم الحرب بحق شعبه، ومارس كل أنواع الإرهاب الداخلي والإقليمي.

وبناء على ذلك كله، نرى ضرورة تعزيز التنسيق والعمل المشترك السعودي – التركي، الذي سيكون المحور الذي تتمفصل حوله الجهود الإقليمية المساندة للشعب السوري، وهو ما سيؤثر في الموقف الأميركي نفسه، والمواقف الإقليمية والدولية الأخرى، بفعل تداخل المصالح، وماهية الحسابات السياسية التي تظل نسبية خاضعة لمنطق التغيير، وهو منطق يفرضه تبدّل الأحوال والأولويات.

عبد الباسط سيدا

Comments (0)
Add Comment