وضعت أزمة اللجوء الأخيرة القارة الأوروبية أمام صحوة ضمير وأزمة أخلاق إنسانية وسياسية. هكذا اضطرت إلى إعادة النظر في المبادئ المؤسسة لقيم الديموقراطية وحقوق الإنسان وحدود البلدان وسيادتها ومعنى الاتحاد (الأوروبي) وغير ذلك مما قامت عليه تلك البلدان. يظهر هذا خصوصاً في السياسات الخارجية تجاه منطقة الشرق الأوسط وسورية تحديداً، قبل أن تعود الهجمات الأخيرة لتنظيم «داعش» والتهديد بارتكاب المزيد منها ضد أهداف غربية، لتوجّه البوصلة باتجاه آخر.
وقبل وقت قريب لكنه يبدو الآن غائراً في الزمن، بدت صور العائلات برجالها ونسائها وأطفالها، والأفراد الشبان من ذكور وإناث، وهم منهكون يعبرون تلك المساحات الخضراء أو متعانقون بعد أعجوبة نجاة، أو حتى أموات تلفظهم أمواج المتوسط. وبدا أن تلك الصور أنجزت ما لم تنجزه 5 سنوات من الديبلوماسية المتعثرة، والمواجهة المسلحة غير المتكافئة والاستجداء المهين أحياناً لمجتمع دولي أصم.
صحيح أن أصواتاً معادية كثيرة علت ضد هؤلاء الوافدين الجدد، وارتفعت سياجات شائكة «لا تليق» بأوروبا، وطرحت مشاريع قوانين إقصائية وعنصرية، لكن بدا أن ثمة رأياً عاماً شعبياً متعاطفاً إلى حد بعيد مع القضية السورية، ولاحت لحظة مواتية لإحداث انفراج ما، ولتحقيق انعطافة سياسية دولية باتجاه حل المعضلة لمصلحة السوريين أنفسهم وليس نظامهم، لا سيما أن غالبية الفارين عبرت صراحة عن هربها إما من مناطق آمنة نسبياً لكنها غير قابلة للحياة، أو من مناطق قصف النظام. وبدا أن إيجاد الحل، أو ابتكاره بشتى الطرق، أصبح حاجة دولية ملحة بغض النظر عما إذا كان محركها الضمني الاقتناع بضرورة رحيل بشار الأسد والتعاطف مع ضحاياه من الشعب السوري، أم أنه دافع أناني بعدم الرغبة في استقبال مزيد من اللاجئين والتعامل مع مشكلاتهم الاجتماعية والاقتصادية والإنسانية.
كانت لحظة تشبه في اثر الصدمة الذي أحدثته دولياً وما أدت إليه من تسريع مفاجئ لعجلة القرارات، ضربة الكيماوي على الغوطة الشرقية. فما تلا انتشار صورة الطفل إيلان نائماً على ذلك الشاطئ من يقظة دولية حيال الأزمة السورية، لا يختلف كثيراً عن صفعة سابقة أحدثتها صور أطفال الغوطة وهم أيضاً يغطون في سباتهم.
لكنها مرة أخرى تبدو لحظة أقصر من أن تمنح بارقة أمل حقيقية. فقد جاءت العمليات الإرهابية الأخيرة في باريس لتضع الحلقة الأضعف من المعادلة في دائرة الاتهام والكراهية وفي مواجهة جديدة غير منصفة ولا متكافئة. ففي مقابل حملات تضامن فردي مع الضحايا الفرنسيين، ونزاعات داخلية بين أطياف المعارضة حول أحقية التضامن وجدواه، وتقاذف اتهامات بنواياه التي تتراوح بين شعور بالذنب ودونية، قفز النظام السوري إلى الواجهة وأعاد تكريس خطابه القائل إنه يحارب الإرهاب، وإنه البديل الوحيد لـ «داعش»، وإن الغرب يجب أن يتحاور معه هو في حربه الجديدة، لأن التعاطف الإنساني مع هؤلاء اللاجئين لن يجلب لأوروبا إلا مزيداً من القتل والدمار.
وإلى ذلك، لم يتأخر النظام أيضاً في قطف ثمار تفجيرات باريس سياسياً عبر تعزيز موقعه في اللقاءات التي يُزمع عقدها في الأيام القليلة المقبلة. فقد تصلب الموقف الروسي وزاد تمسكه بالأسد، كما تم فرض الممثلين عن النظام و»المعارضة الواعية» التي تعمل في ظله ولا تهدد علمانيته المزعومة، مقابل تخبط واضح في «اختيار الممثلين» عن المعارضة.
وفي حين بدأت إجراءات التضييق الفعلية تُتَخذ بحق المدنيين السوريين في الخارج، سواء بإقرار قانون أميركي برفض استقبالهم، أو إغلاق حدود بلدان أوروبية، وإعادة نظر جذرية في فضاء التأشيرة الموحدة «شينغن»، أو حتى احتمالات سحب الجنسية من أصحاب الجوازات الأخرى… وهي كلها بالمناسبة «منجزات» تحتسب لـ «داعش» ويستفيد منها النظام في تحسين شروط التفاوض، لا يزال التحدي الأكبر أمام المعارضة السورية تحديد ممثليها أو الناطقين باسمها القادرين على تحمل عبء الملفات الثقيلة من عسكر وسياسة ولجوء. فما عاد يكفي اليوم أن تختار الدول الراعية (سواء تركيا أو بلدان الخليج) ممثليها من المعارضين السوريين في اللقاءات الدولية، ليس بسبب عدم الكفاءة بل لأنهم قد لا يملكون بالضرورة مصداقية وصلاحيات على أرض الواقع وفي الداخل السوري. ذاك أن الأولوية الآن باتت لجسر الهوة بين الميدان والسياسة، وبين العسكر على أرض المعركة والياقات البيض ممن يتحدثون باسمهم على طاولات الحوار.
بيسان الشيخ