كانت هجمات باريس الفعل الأكثر جرأة في أوروبا من تنظيم «الدولة الإسلامية» (داعش)، ما يشير إلى بزوغ فجر حقبة جديدة تؤشر إلى أن لا مكان في مأمن من التهديدات الإرهابية. لكن الهجمات لم تتسبب في تحول كبير في سياسة المجتمع الدولي يعطيه فرصة لهزيمة التنظيم. على العكس من ذلك، كما تبدو الأمور، فإن رد الفعل العالمي على هجمات باريس يصب في يد التنظيم.
كانت استراتيجية تنظيم «داعش» قبل تقدمه في الموصل في عام 2014 قائمة على الهجوم المبني على كسب الأراضي. وقد استخدم التنظيم هذا كدليل ملموس لشعاره، «باقية وتتمدد». وبعد التقدم في الموصل، واصل العديد من المراقبين الخارجيين قياس نجاح التنظيم من حيث المساحة الجغرافية المكتسبة. كان يعتقد، خطأ، أن تباطؤ التوسع المادي للتنظيم علامة ضعف. والحقيقة هي أن التنظيم كان ببساطة يدخل مرحلة جديدة.
قيام التنظيم بقطع رأس اثنين من الرهائن الأميركيين وإعلان تأسيس «الخلافة» في الوقت ذاته تقريباً في حزيران (يونيو) 2014 كانا مؤشرين على تحول كبير في استراتيجيته، فهو حينها بدأ الانخراط في حرب دفاعية. كان الهدف من قطع الرؤوس هو دفع التدخل العسكري الأميركي. فقد ثبت تاريخياً أن الحرب الدفاعية أكثر ملاءمة من الحرب الهجومية للمجموعات الصغيرة المنخرطة في القتال ضمن الحرب غير المتكافئة. فبنى قادة «الدولة الإسلامية» استراتيجية التنظيم العسكرية وفقاً لذلك.
أصبح للتمدد معنى آخر، وهو الحضور العالمي، وليس الكسب الإقليمي. بدأت الهجمات الانتهازية للتنظيم في جميع أنحاء
العالم، وكانت تهدف إلى زيادة دعم «داعش» من خلال الاستعراض للمتعاطفين مع التنظيم أن نفوذه أصبح عالمياً. كان هذا الاستعراض لا يقتصر فقط على صورة التنظيم ولكن أيضاً يهدف إلى التجنيد، فبعدما أخذ التنظيم قدراً من الأراضي اعتبره كافياً لإنشاء «دولة»، أصبح بحاجة إلى المقاتلين والمقيمين لتشكيل سكانها.
وقد استندت الحسابات العسكرية لـ «داعش» على دراسة دقيقة لرد فعل الغرب على التعامل مع سيناريوهات مماثلة في سياق الشرق الأوسط منذ 11 سبتمبر 2001. أصبح من الواضح لقادة هذا التنظيم الإرهابي أنه يمكن بسهولة استقطاب الغرب إلى حرب انتقامية غير قائمة على استراتيجية شاملة. حدث هذا في أفغانستان بعد 11 سبتمبر، كما في العراق بعد غزو عام 2003، حيث كانت الأعمال الإرهابية من قبل تنظيم «القاعدة» تقود ردود الفعل العسكرية من قبل الولايات المتحدة وحلفائها والتي غذت الصراعات بدلاً من وضع حد لها.
كانت تجربة العراق المحرك الرئيسي وراء سياسات إدارة باراك أوباما في الولايات المتحدة، حيث حاول الرئيس تجنب تكرار السيناريو ذاته في بلدان الشرق الأوسط الأخرى. فهم قادة «داعش» هذا، وراهنوا على أن الولايات المتحدة وحلفاءها سيحاولون تجنب التورط في الصراع السوري، إلى أن ينجروا إلى التورط على عجل عندما يتم دفعهم للقيام بذلك. كان الرهان على أنه بعد ما حدث في العراق في أعقاب الغزو، ليس من بلد غربي يود إرسال قوات عسكرية على الأرض في الشرق الأوسط مرة أخرى، ما يعني أن أي رد فعل عسكري من قبل الغرب لن يكون كافياً لهزيمة «داعش».
جاء التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الذي يشارك في الغارات الجوية ضد «داعش» منذ سبتمبر 2014 ليؤكد للتنظيم دقة توقعاته. وكان التنظيم قد أعد بشكل جيد لغارات جوية، فخبأ قادته تحت الأرض ونشر مقاتليه بين السكان المدنيين في سورية والعراق. كما استخدم الضربات لإثبات سرديته بأنه يدافع عن أراضي المسلمين ضد عدوان الصليبيين والكفار والمرتدين كما يسميهم.
من خلال هجمات باريس، هدف تنظيم «داعش» لإعطاء فرنسا خياراً وحيداً هو الرد عبر تدخل عسكري مماثل. والآن بما أن غيرها من الدول الغربية تدرس التدخل العسكري، نجح «داعش» في استخدام الغضب الشعبي والخوف في أوروبا لمصلحته، فالدول برمتها تتعرض لضغوط لتظهر لشعوبها أنها تفعل شيئاً حيال «داعش»، إما للانتقام لهذه الشعوب أو للدفاع عنها. فأصبحت الدول تحول انتباهها إلى الأمن الداخلي، في حين أنها تشعر أيضا بالضغط للتصرف خارجياً. وهذه الازدواجية تترجم إلى هذا النوع من العمل العسكري الخارجي الذي هو في أحسن الأحوال رمزي، وفي أسوأ الأحوال غير مبني على استراتيجية واضحة.
قرار مجلس الأمن في الأمم المتحدة ضد «داعش» الذي تم الاتفاق عليه بالإجماع في أعقاب هجمات باريس هو مثال آخر على شعور الجميع بالضغط ولكن مع الافتقار إلى استراتيجية فعالة. جاء القرار أيضا ليؤكد لأنصار «داعش» في جميع أنحاء العالم أن كل من هو خارج التنظيم هو عدو شرعي.
فهي صيغة بسيطة. مهاجمة العدو لعرض النفوذ. كسب أعضاء جدد. دفع العدو نحو الانتقام العسكري المتسرع. كسب أعضاء جدد.
إن للمجتمع الدولي عدواً مشتركاً حقيقياً في شكل «داعش». ولكن حان الوقت للتوقف عن الانجرار الى ردود الفعل كطريقة للتعامل مع هذا التهديد. كلما زاد تركيز المزيد من البلدان على الأمن ابتعدت من السياسة، وكلما ابتعدت من السياسة استفاد «داعش».
من المغري رؤية «داعش» على أنه المشكلة، ولكنه ليس المشكلة، بل هو من الأعراض. المشكلة الأساسية هي استمرار الصراع السوري. قادة «داعش» يدركون هذا، ويستفيدون من عدم وجود استراتيجية للمجتمع الدولي لإنهاء الأزمة السورية. وهم شوهدوا في قمة الفرح حين تحولت محادثات فيينا التي كان من المفترض أن تكون عن بدء عملية المفاوضات السياسية في سورية إلى مناقشات حول المسائل الأمنية.
العمل العسكري وحده لن يهزم «داعش». يجب أن يقترن ذلك مع خطة سياسية تعالج الأسباب الجذرية وراء وجود هذا التنظيم. في غياب ذلك، فإن ردود الفعل وتدخلات المجتمع الدولي الحسنة النية لن تؤدي إلا لخدمة الإرهاب.
لينا الخطيب
الحياة