على رغم إعلان دي ميستورا وقف محادثات جنيف بين النظام السوري والمعارضة وتحديد موعد جديد لاستمرارها أواخر الشهر الجاري، وبغض النظر عن الأسباب المباشرة التي أفضت إلى هذه النتيجة، يمكن لحظ ثلاث نقاط مهمة.
النقطة الأولى، وضوح قوة التوافق بين روسيا وأميركا لإخماد بؤرة التوتر السورية، بدليل جدية التزامهما بتنفيذ القرار الأممي الرقم 2254 وتقديم تنازلات متبادلة يبدو بعضها مناقضاً لمواقفهما المعلنة، آخرها تفهم موسكو مشاركة موفدين من «جيش الإسلام» و «أحرار الشام» وإن بصفة فردية! ثم شدة الضغوط التي يمارسانها لإجبار حلفائهما الإقليميين والسوريين على قبول مبدأ الحوار والتفاوض، ولتذليل مختلف العقبات أمام فرض خطة طريق للحل السياسي.
الأمر ليس مناورة أو مؤامرة أو لعباً بالوقت الضائع كما يعتقد البعض، بل تلبية لحاجات متبادلة تغذي هذا التوافق، منها إلحاح التحرر من عبء الصراع السوري الذي بات يثقل كاهل الجميع ومحاصرة مخاطره على استقرار المنطقة والحد من موجات النزوح والهجرة التي صارت تضغط بشدة على المجتمعات الغربية، ومنها المنفعة المشتركة في خلق وضع سياسي سوري يمكنهما من توجيه أقسى الضربات للتنظيمات الجهادية المتطرفة بخاصة تنظيم «داعش»، ومنها قطبة مخفية تعنى بتخديم ما يتطلبه الأمن الاستراتيجي لدولة إسرائيل التي باتت تتحسب جدياً من مخاطر تحول الجارة السورية إلى دولة فاشلة، عاجزة عن ضبط المجتمع ولجم انفلات الجماعات الجهادية المسلحة.
النقطة الثانية، حالة الضعف التي وصلت إليها أطراف الصراع الداخلية وقد أنهكتها سنوات من تمادي العنف وتعزز ارتهانها للأطراف الخارجية الداعمة، ولن يخدعنا هنا ما يثار عن اشتراطات وتحفظات من السلطة أو المعارضة تجاه الخطة الأممية، لأنهما تشاركان صاغرتين ولن تقويا على رفض ما أجمع عليه حلفاؤهما والمجتمع الدولي.
وإذ يتضح استمرار تعنت النظام ورفضه تقديم أية تنازلات جدية من دون اكتراث بالثمن الباهظ الذي يدفعه السوريون وحجم الكارثة التي حلت بالبلاد، لكنه اليوم لا يملك هامشاً للمناورة أمام ما يجده حلفاؤه حلاً سياسياً يخدم أهدافهم ومصالحهم، حتى وإن لم يُرضه أو ينسجم مع رغباته، ويبقى أن ما اعتادت فعله بعض مراكز النظام المتضررة من هذا الحل هو السعي لإفشاله وإعاقة تطبيقه، مرة عبر المراوغة والتسويف وإغراقه بخلافات حول التفاصيل، ومرة ثانية بتصعيد العنف والهجمات العسكرية لتحسين المواقع على الأرض.
وفي المقابل تعيش المعارضة السورية حالة ارتباك في التعامل مع الحل السياسي المقترح، إن بسبب التباينات في مواقف الكتل التي تتشكل منها، وإن بسبب ضغوط متنوعة ومتعاكسة تتعرض لها، من فصائل مسلحة لها سقف مرتفع ويرفض بعضها مبدأ التفاوض من الأساس، ثم من قوى عربية وإقليمية لا يرضيها ما تقدمه واشنطن من تنازلات وترفض تمكين خصميها الإيراني والروسي من الوضع السوري، والأهم من جانب واشنطن التي هددت بسحب يدها ووقف دعم المعارضة إن لم تستجب لاشتراطات التفاوض وإملاءاته، من دون أن ننسى الضغط الأخلاقي الذي تشكله معاناة الناس على الأرض وإلحاح الحاجة لبلورة سياسة إنقاذية توقف دورة الدم والألم.
النقطة الثالثة، إلحاح الحاجة لمعالجة الملف الإنساني بالاستقلال عن مسار المباحثات السياسية، ما أعطي قيمة كانت مهدورة لشدة معاناة الناس وما تكابده قطاعات واسعة من الشعب السوري. وإذ يبدو هذا الأمر عند البعض أشبه بتراجع عن الحقل السياسي وعن جذور انطلاق الثورة وشعاراتها، لكنه أمر مفسر حين ينظر إلى المشهد السوري اليوم كمأساة وطنية وكارثة تزداد حدة وعمقاً، وباتت تدفع غالبية السوريين لتقدير الأطراف الأكثر مسؤولية وحرصاً على حيواتهم وفرص عيشهم واجتماعهم الوطني، مسؤولية إنسانية، تتعلق بوقف العنف والحد من الإمعان في ما يخلفه من دمار وضحايا ومعتقلين ولاجئين، والاهتمام بمستقبل ملايين الأطفال الذين انهارت فرصهم التعليمية وتفشت الأمراض والاضطرابات النفسية بينهم، ثم مسؤولية سياسية تعنى بوقف تدهور البلاد نحو الأسوأ، الأرض ومؤسسات الدولة، الأمن وشروط الحياة، فرص التعايش والاحتقانات الأهلية والطائفية.
يحق للبعض أن يشكك في جدوى التفاوض السياسي وأنه لن يفضي إلى نتائج ملموسة في ظل تعارض مصالح المتفاوضين ومواقفهم وسلوكهم الأخلاقي، لكن مع الاتكاء على قوة التوافق بين روسيا وأميركا لمحاصرة الصراع السوري وارتداداته، وعلى شدة معاناة الشعب وحالة الإنهاك التي تعانيها الأطراف الداخلية، ثم مع الركون إلى حقيقة أن سورية لن تعود إلى ما قبل آذار (مارس) 2011 وأن الدرس الذي لن ينساه الناس أبداً، هو دور الاستبداد في ما وصلت إليه أوضاعهم، وإذا أضفنا انسداد أي أفق أو خيار آخر أقل سوءاً وألماً، وضرورة مقاربة حلول واقعية وإنسانية بعيداً عن وهم الانتصار أو الخوف من الهزيمة، عندئذ يمكن تفهم الرهان على الفرصة الأممية لإعادة بناء القوى والاصطفافات بما يخفف معاناة الناس ويؤسس لإنتاج عقد اجتماعي جديد، يحافظ على وحدة الدولة والبلاد ويلبي حقوق الناس المشروعة في الحرية والعدالة والكرامة. وهذا من دون أن نغفل احتمال تعرض هذه الفرصة لانتكاسات وإخفاقات موقتة كالتي عرفتها مختلف التسويات التي طاولت مجتمعات فتكت بها الحروب الأهلية.
والحالة هذه، ما من جهد يجب أن يوفر أو يؤجل لتغذية الشعور الإنساني لدى الجميع لتخفيف ما صارت إليه أحوالنا، وللتأكيد أن طريق العنف والإقصاء لن تقود سوى إلى استمرار دوامة الموت والإفناء المتبادل، وللمثابرة على نشر ثقافة تنبذ كل محاولات التمييز والاستفزاز وتظهر موقفاً مبدئياً ضد منطق الغلبة والإكراه وضد أي خطاب مسطح يحتقر حقوق الإنسان ويستسهل قتل البشر وسفك الدماء لأغراض سياسية أو دينية، ثقافة لا يمكن من دونها أن نكون أوفياء لشعار التغيير الديموقراطي وللتضحيات العظيمة التي بذلت.
اكرم البني