عن المثقف والنقد
(… ليس من شأن المثقف أن يقول للآخرين ما يتعين عليهم فعله. فبأي حق يفعل ذلك؟… إن دوره أن يعيد مساءلة الحقائق البديهية والمسلمات، وهزّ العادات المستقرة وطرائق الفعل وأساليب التفكير، وتعرية المظاهر المألوفة المتعارف عليها. وأن يعيد النظر في القواعد والأسس، انطلاقاً من إعادة صياغة الإشكالية. وبهذا يؤدي دوره الخاص كمثقف في تشكيل إرادة سياسية حيث يقوم دوره كمواطن…). ميشيل فوكو
عندما يكون الناقد مطّلعاً بصورة سليمة على الطرائق العلمية ومعارف عصره، يُفيد منها قدر استطاعته، عندها يمكن أن يوصله اطلاعه، إلى اكتشاف أنه مهما كانت المعلومات دقيقة فإن أدوات البحث العتيقة – مع سبق نجوعها – لا تنتج وعياً معاصراً، بل تعيد إنتاج المعرفة القديمة بتعبيرات جديدة. كما يدفع به (اطلاعه) إلى معرفة أن الفكر النقدي يهتم بالفوارق الموجودة في ثنايا الموضوعات مهما ضؤلت، فلا يقع في فخ الالتباس بين النقد المختص والانتقاد عموماً. ناهيك عن وجوب تحلي الناقد بالنزاهة والتمكن من موضوع البحث والأمانة في العرض واحترام جهد الآخرين، باعتباره مرآة المتلقي ووسيطاً له في كشف مستويات الموضوع المنتقد.
لعل أقسى ما يعانيه الناقد ذلك الصراع الذي يخوضه في مواجهة عواطفه، وميوله الذاتية، كي يغدو في إمكانه مقاومة الإغراءات الإيديولوجية التي تأسر وتسيطر، إذ أنّ التشبث بالموضوعية هو الذي يحقق التحرر منها (الإغراءات) إلى حدٍّ يزيد أو ينقص. وهو يعتمد النسبية دائماً لأن ممارسة الرأي الحر محكومة بالاختيار في ظروف متبدلة.
على هذا فالناقد المتورط في شؤون ليست من مجاله فاقد لتميّزه واستقلاله الفكري والشخصي، بالتالي ليس له حضور ولا تأثير. كذلك ليس الناقد وكيلاً عن أحد ولا ينبغي له أن يكون، كما أنه يتحاشى ممارسة أساليب العلاقات العامة، لأنه صاحب بؤرة منيرة في الحياة الثقافية وشاهد على عصره.
يتعذر أن يكون طريق الناقد إلى النجاح والتألق عبر الانصياع للأفكار المسبقة وإصدار أحكام ناجزة تستند إلى قناعات دوغمائية. فالجزم الحازم والحسم القطعي والرفض البات، أمور تنفي جدوى ثقافة ممارسها. كذلك الأمر في النقد الذي يكتفي بالملامسة، ولا يقترب من أغوار المسائل الحساسة والشائكة، ويتحاشى تلك التي تجعل الناقد محل عتب أو غيظ، لحرصه على استمرار الطمأنينة.
الناقد الواقعي المنعتق من قيود الإيديولوجيا مستعد على الدوام لتعديل رؤاه وفق ما يستجد من معطيات يقف عليها ومعارف يلم بها، ويرى أن من الواجب عليه بذل ما في وسعه للبحث عما يسهم في دعم موقفه أو الارتياب فيه.
إن المثقف ناقد بطبيعته، والداعية ناقد بحكم الضرورة، أما الأستاذ الذي يقتصر على تلقين طلابه مسلّمات ومصادرات ومن ثمّ يعيد ويكرر ما فاله الأسلاف القدامى أو الجدد فليس مثقفاً لأن ليس له من جهد فيما يقدمه غير حفظه، وهو لا يعدو أن يكون مروجاً لأفكار الغير.
المثقف هو ذاك الذي يظل راسخ القدم، فيما رياح الأفكار المتصارعة تعصف وتياراتها المختلفة تموج هنا وهناك، لأن له فلسفة شخصية ولديه حس قوي باحترام الذات.