جورج سمعان
مصير الرئيس بشار الأسد سيظل عقدة العقد في مفاوضات جنيف. تماماً مثل مفهوم المرحلة الانتقالية. فهل تقودها حكومة جامعة من أهل النظام والمعارضة ومستقلين، كما تريد موسكو وطهران ودمشق؟ أم تقودها هيئة تنتقل إليها صلاحيات الرئيس التنفيذية كاملة، كما تطالب المعارضة وفق تفسيرها لبيان جنيف لعام 2012.
من حق المعارضة بعد هذه الحرب الضروس في سورية أن تصر على رحيل الرئيس ونظامه. ومن حقها ألا ترى معنى لأي محادثات تفضي إلى إعادة تأهيلهما واستمرارهما بعد كل هذه التضحيات. يبقى على واشنطن والقوى الإقليمية الراعية أطياف المعارضة أن تثبت قدرتها على فرض مواصلة المسيرة التي بدأت في لقاءي فيينا. فالواضح، انطلاقاً من التفاهم الأميركي – الروسي أن مستقبل الرئيس مؤجل. بل إن بعض قوى «الائتلاف الوطني» تقبل ببقائه لفترة معينة في المرحلة الانتقالية التي يفترض أن تستغرق سنة ونصف السنة على الأقل.
مستقبل الرئيس الأسد لن يكون نتيجة مفاوضات جنيف وحدها، أو رهن التسوية التي سيتوافق عليها الأطراف السوريون. مصيره أبعد من التوافق الداخلي وحده على أهميته. يتقرر أيضاً بين القوى الكبرى والإقليمية التي تتصارع على الأرض السورية، وإن كررت هذه القوى دوماً أن الأمر يعود إلى السوريين. ويتقرر في إطار ما سيرسم لمستقبل العراق وبلاد الشام والمنطقة عموماً. فالبلدان في قلب النظام الإقليمي الذي يعني أهل المنطقة ودول جوارها. يعني إيران وتركيا وإسرائيل ودول الخليج والجامعة العربية عموماً، مثلما يعني الولايات المتحدة وأوروبا وروسيا ومصالحها جميعاً في الشرق الأوسط. ويظل السؤال هل بمقدور القوى الكبرى أن تفرض التسوية على القوى الإقليمية، أو على الأقل تحييد دورها وإمكان تعطيل أدواتها المعرقلة؟
تبدو روسيا، أولاً، صاحبة تأثير كبير في النظام في دمشق وفي القوات العسكرية. لقد أتاح لها تدخلها العسكري الواسع أن تمتلك منصة لمخاطبة خصومها الغربيين. وأثبتت لهم أنها قادرة على تغيير موازين القوى على الأرض، مثلما هي قادرة على دفع العملية السياسية نحو إيجاد تسوية. وقدمت نفسها قوة كبرى يمكنها أن تكون جزءاً من الحلول وليس الأزمات فحسب. كما رسخت أقدامها في الإقليم انطلاقاً من قاعدتيها في طرطوس وحميميم. كذلك استعادت نفوذها داخل المؤسسة العسكرية السورية. أعادت هيكلة الأركان والقيادات، الأمر الذي أعاد إلى هذه المؤسسة شيئاً مما خسرت من هيبتها وفاعليتها. لذلك، يصعب عليها أن تقدم «رأس النظام» إلى أطياف أو فصائل معارضة بات شبه مستحيل أن تخوض معركة الحسم العسكري ما لم تتبدل صورة الدعم الذي تتلقاه من «أصدقائها». ويصعب عليها حتى أن تلتزم رحيله سلفاً سواء للولايات المتحدة أو غيرها من القوى أياً كان تأثيرها ودروها في الساحة السورية. بل ستواصل استثمار هذه الورقة للمساومة والمقايضة حتى إيجاد التسوية المرضية لأزمة سورية. وأبعد من ذلك ستكون هذه ورقة إضافية بيدها في الصراع الدائر في أوكرانيا حتى يتحقق لها رفع العقوبات الغربية واحترام مصالحها في فضائها الأمني. ولا شك في أن الدعوة إلى استئناف انعقاد المجلس الأطلسي – الروسي، المعلق منذ 2014، للبحث في الأزمة الأوكرانية وسبل تطبيق كامل لاتفاقات مينسك الموقعة عام 2015، وفي ملفات أخرى، مؤشر إلى خرق في جدار التوتر بين موسكو والعواصم الغربية، وإلى رغبة في استعادة الحوار بين هذه الأطراف. وستستخدم هذه الورقة أيضاً في حوارها مع الدول الخليجية النفطية من أجل إيجاد تفاهم يعيد بعض الاستقرار إلى أسواق الطاقة، ويعزز مواقعها في العالم الإسلامي السنّي عموماً. علماً أن قوى عربية معنية بالأزمة حريصة على ألا يحمل التغيير قوى الإسلام السياسي إلى السلطة أو يؤدي إلى استئثارها بالحكم.
هذا التأثير لروسيا يعتمد على حضورها العسكري الراجح في سورية. ويعتمد أيضاً على المؤسسة العسكرية السورية التي استعاد قادتها ثقتهم وقدرتهم على اتخاذ زمام المبادرة في الميدان. ولم يكن هؤلاء في السابق يخفون مشاعر الامتعاض من تصريحات إيران و «حزب الله» ودور الميليشيات عن دورها في حماية النظام ومنع انهياره. لكن هذا التأثير يبقى محكوماً بالحضور الإيراني الذي راح يتعزز، بعد إعلان موسكو وقف النار بالتفاهم مع واشنطن، وبعد سحب عدد من طائراتها وقواتها. وبعد ارتيابها من هذا التفاهم. من هنا، جاء إعلان طهران رسمياً إرسال قوات خاصة إلى سورية. وإذا صحت الأرقام التي تتداولها المعارضة عن عديد القوات الإيرانية وحلفائها، فإن ذلك يعني أن هذه القوات تكاد توازي القوات النظامية. ما سيجعل الوضع شبيهاً إلى حد ما بما هو قائم في العراق بين الجيش النظامي و «الحشد الشعبي». علماً أن القوات الإيرانية يمكن مجلس الأمن أن يعتبرها «أجنبية» ويطلب سحبها إذا حصل توافق بين أعضائه، بخلاف قوات «الحشد» المشكلة من العراقيين.
أياً يكن الأمر فسيكون صعباً على موسكو أن تتجاهل هذا الحضور الكبير للجمهورية الإسلامية ومصالحها في بلاد الشام… إلا إذا كانت مستعدة للذهاب إلى النهاية في فرض رؤيتها للحل على جميع اللاعبين. وكان لافتاً الإعلان عن تدريبات على إقامة منطقة آمنة تجريها قوات روسية من «لواء حفظ السلام». وهي قوات قد يكون من مهماتها فرض السلام في سورية. أو فرض التسوية بالتعاون مع القوات السورية. وسبق لوحدات من هذا اللواء أن تدخلت لفرض الهدوء في مناطق انفصالية بمولدافيا وجورجيا.
لكن الحضور الإيراني في سورية، كما في بلدان عربية أخرى، يبقى أيضاً جزءاً من الصراع مع قوى عربية على رأسها المملكة العربية السعودية. ولن تتخلى هذه الدول عن دورها وحضورها، لا في سورية ولا في العراق لمصلحة طهران، فيما هي تخوض مثلاً حرباً في اليـــــمن لاقـــتلاع الوجــــود الإيراني من هذا البلد. وحـــتى تركيا ســـتكون لها كلمـــتها في مواجهة التمدد الإيراني، وفي تقرير شكل النظام الجديد في دمشق ومآل الحراك الكردي الساعي إلى بناء إقليم في شمال البلاد وشــرقها على غرار كردستان العراق. ولا يخفى أن إسرائيل المنخرطة في الصراع على طريقتها ستكون لها كلمة مســموعة ليس في واشنـــطن فحسب، بل في موسكو أيضاً. حتى الآن لم تبد حماسة في تغيير النظام ما لم تضمن سلفاً أن البديل سيضمن أمن الحدود، كما كانت الحال منذ حرب تـــشرين (أكتوبر) 1973. وهذا هاجس لازم أيضاً المـــواقف الأمـــيركية والــغربية والروسية التي تتمسك بوجوب بقاء مؤسسات الدولة بعد إعادة تأهيلها وإصلاحها لتتلاءم والتغيير المطلوب.
إلى كل هذه العوامل سيكون على المتفاوضين في جنيف التوافق على تسوية ترضي جميع الأطراف الداخليين. وهذه مهمة تبدو شاقة. والعقدة الكردية ليست وحدها هاجس كثير من اللاعبين، على رغم أنها تؤشر إلى توجه نحو نظام فيديرالي أو لا مركزي موسع. العقدة الأساس في المكون العلوي. ولا يغيب بالتأكيد عن جميع المعنيين بوجوب رحيل الرئيس الأسد أن هذا المكون لن يكون مساهماً في مثل هذا التغيير قبل ضمان أمنه وحصته ودوره في الصيغة الجديدة ومستقبل المؤسسة العسكرية. ولا يكفي هنا الرهان كثيراً على بيان لزعماء في الطائفة العلوية قالوا أنهم يمثلون حوالى ربع هذه الطائفة، وقد تبرأوا من انتمائهم إلى المذهب الشيعي، وأكدوا ابتعادهم من الأسد. وفي ظل غياب مرجعية دينية أو سياسية لهذا المكون تظل الكلمة معقودة للمؤسسة العسكرية. ويصعب أن ينقلب قادتها أو يتخلوا عن الرئيس، أو أن يساهموا في أي خطوة أو توافق لترحيله ما لم يضمنوا دور هذه المؤسسة في مستقبل البلاد.
في ضوء كل هذه العوامل سيظل مصير الأسد معلقاً. وسيظل قطار جنيف بطيئاً بانتظار أن تتبدل الظروف الدولية والإقليمية… ربما بانتظار التغيير المتوقع آخر السنة في البيت الأبيض، مهما استعجل الكرملين استثمار ما بقي من عهد الرئيس باراك أوباما.