عبدالباسط سيدا
ما شهدته منطقتنا وتشهده منذ نحو عقد، وربما أكثر، إذا ما أخذنا في الاعتبار ما جرى في العراق ولبنان، من حراك وتصادم ومطالبات مشروعة بالحرية والعدالة والكرامة، وذلك بعد القطع مع الاستبداد والفساد والإفساد، يعكس وجود خلل بنيوي في المنظومة المفهومية التي تتحكّم بتوجهات وممارسات القوى السياسية، سواء تلك التي تمثّل النظام القديم الذي يحتضر أم التي تبشّر بنظام جديد لم يولد بعد.
والخلل المعني هذا مردّه عدم تشخيص احتياجات الواقع العياني الذي تعيشه مجتمعاتنا، وعدم البحث عن بواعث جملة المشكلات التي نعاني منها، وعدم بذل أي جهد جاد تفاعلي، يستهدف بلوغ مخارج واقعية مقبولة منسجمة مع خصوصيات وحقوق مكوّناتنا المجتمعية بأسرها، ومتناغمة مع المساعي الهادفة إلى تأمين مستقبل أفضل لأجيالنا المقبلة.
السمة الغالبة لما رأيناه ونراه عبارة عن صراعات وصدامات تدميرية بين قوى ماضوية النزعة، تتكئ في أطروحاتها على توجهات أصولية مذهبية منغلقة، أو قوموية عصبوية مسدودة الآفاق، هذا إلى جانب قوى أخرى فاسدة مفسدة وجدت في الإستبداد حامياً لها، مدافعاً عنها. ومن الواضح أن ركائز السياسة الإيرانية منذ بداية المرحلة الخمينية هي التي ساهمت في شكل فاعل في دفع الأمور نحو هذا الاتجاه، وذلك باعتمادها سياسة استغلال المذهب لبلوغ أهداف سياسية عبر التمدد والتجييش، والتحكّم وتفجير النسيج الوطني لمجتمعات المنطقة، الأمر الذي أدى في المقابل إلى تعاظم هيمنة الفكر السلفي الجهادي، وتحوّله إلى حالة تنظيمية إرهابية، تفرز من حين إلى آخر أجيالاً جديدة أكثر شراسة ودموية.
ومن الملاحظ أن حجم هذه القوى العددي ليس كبيراً قياساً إلى المجتمعات التي باتت ضحيتها، ولكنها تمتلك السلاح والمال والإعلام، وهذا ما مكّنها من تكريس حالة شعبوية تستمد نسغها من الحاجة والهاجس وعدم وجود البديل الأفضل. هذا ما حدث ويحدث في لبنان وسورية والعراق واليمن، وربما قريباً في مجتمعات المنطقة الأخرى، ما لم يتم تدارك الأمور قبل فوات الأوان.
أما النخب المؤمنة بضرورة بناء الأوطان بالجميع وللجميع فمغلوبة على أمرها، منقسمة على ذواتها، قلقة في توجهاتها، مشتّتة على صعيد الطاقات. ولكن هذه النخب مع ذلك بدأت تكتسب في الآونة الأخيرة المزيد من الاهتمام، وبات التعويل عليها أكثر وضوحاً، وذلك بعد أن تيّقن الناس بالأدلة الملموسة من خطورة، بل من كارثية، توجّهات وممارسات القوى المتطرفة بأسمائها وصيغها وخلفياتها المختلفة.
ما نحتاجه اليوم في مجتمعاتنا هو فك الارتباط ما بين الديني والسياسي، وذلك بما ينسجم مع خصوصيتنا، ويبعدنا من آفات العلمانية المتوحشة التي تحوّلت هي الأخرى إلى نوع من العقيدة الدوغمائية التي ألحقت أضراراً فادحة بالمجتمعات التي ظهرت فيها، وكانت ستاراً لتصفية الخصوم، والمصادرة على جهود قوى التغيير.
ولعلّه من نافل القول إن فك هذا الارتباط لن يكون على حساب الدين، ولن يمثّل أية اساءة له، وإنما سيعيد تنظيم العلاقة بينه وبين السياسة، ويفسح المجال أمام إعادة بناء مجتمعاتنا وفق أطر تتناسب وروحية العصر، وحقيقة الحاجات المتنامية، والاستعداد لمواجهة التحديات الوجودية المستقبلية.
فالدين يظل عقيدة المؤمنين به، وثقافة المجتمع، ولكن من دون أن يتحوّل إلى حزب سياسي يعاني من تعارض صارخ بين «حقائق السياسة النسبية» و «حقائق الدين المطلقة». وذلك مصادرة على امكانية تحوّل هذه الأخيرة على يد أنصاف المتعلمين من أصحاب العقد والهلوسات والرغبات غير المشبعة إلى فتاوى تكفيرية ما أنزل الله بها من سلطان، فتاوى تستلهم ما يتوهّمه هؤلاء بخصوص الوضعية التي كانت قبل نحو ألف وأربعمئة عام.
ولبلوغ اللحظة التاريخية الحاسمة، على حد تعبير استاذي الدكتور طيب تيزيني، لا بد أن تتضافر جهود المفكّرين والباحثين والمثقّفين المتمكّنين بعلمهم واعتدالهم، وحرصهم المسؤول على ضمان مستقبل أفضل لأجيالنا المقبلة مع جهود السياسيين من أصحاب القرار، ممن باتوا على يقين تام بأن ما يجري يهدّد بالتهام الأخضر واليابس ما لم تكن هناك معالجة جدية جذرية. أما الحلول الأمنية، فقد تكون مجدية على المدى القصير، لكنها إرباكية مكلفة، ولن تؤدي سوى إلى المزيد من التفتّت والتشدد، والمزيد من الانهيارات والكوارث مستقبلاً.
الموضوع يحتاج إلى مناقشات هادئة موضوعية، ترغب بالفعل لا بالشعارات والبهلوانيات في الوصول إلى استراتيجية متكاملة، تأخذ واقع مجتمعاتنا وخصوصياتها في الاعتبار، ولكن من دون أن نفرّط بالمبدأ الأساسي الذي يستوجب الفصل بين الدائرتين: دائرة الدين ودائرة السياسة، وهو الأمر الذي أكده مراراً وتكراراً زكي نجيب محمود، الفيلسوف الذي لم يُعط حقه كما ينبغي. وخطة كهذه تستوجب، بين ما تستوجب، إعادة نظر شاملة في المناهج الدراسية بجميع مراحلها، والاستراتيجيات الإعلامية، والمبادئ التي تتأسس بموجبها الأحزاب والجمعيات بمختلف أسمائها وتوجهاتها.
مجتمعاتنا تمتلك طاقات فكرية متميّزة لم تستثمر بعد، وما نراه هو أن تجارب المواجهات مع التطرف والتشدد قد أقنعت المسؤولين السياسيين بضرورة تجاوز الحلول التقليدية المتبعة راهناً. وهذا ما يمهّد الطريق أمام صيغة من تكامل الجهود بينهم وبين نخبنا الفكرية التي من المفروض أن تستشف قبل غيرها مدى جسامة ما ينتظرنا.
المهمة لن تكون سهلة. وسنسمع كثيراً احتجاجات المزاودين والمشكّكين من المتطرّفين بصرف النظر عن تلاوينهم «الدينية» أو «العلمانية»، ولكنها مهمة حيوية، إن لم نقل وجودية، لم يعد تجاهلها أو تأجيل النهوض بها ممكناً.