فايز سارة
لم يكن تعليق مشاركة وفد المعارضة في “جنيف3″، موقفًا مزاجيًا، كما أشار إليه البعض، ولا هو ينتمي إلى فكرة المغامرة السياسية، أو الاستعراض السياسي، كما قال البعض. بل إنه جاء في سياق موقف جاد ومسؤول من العملية السياسية، التي بدأت في جنيف طبقًا للقرار الدولي 2254 والمرجعية الدولية المنصوص عليها فيه، ووفقًا للنتائج التي تكرست في الجولتين الأوليين من “جنيف3″، وخصوصًا تأكيدات المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا أن الجولة الثالثة مخصصة للبحث في الانتقال السياسي في سوريا، باعتباره بوابة الحل للقضية السورية.
انسجامًا مع تلك الروحية المحيطة بالجولة الثالثة، كانت مواقف وفد المعارضة السورية الذي تقوده الهيئة العليا للمفاوضات، التي شكلها مؤتمر الرياض. ولئن بدت بعض التصريحات لأعضاء في الوفد أو في الهيئة متشددة بعض الشيء وقوية، فهذا أمر طبيعي، ويحصل في أجواء أي مفاوضات، خصوصًا إنْ كان الوفد المقابل، مثل وفد نظام الأسد ورئيسه بشار الجعفري المعروف بتصريحاته وتعقيباته ومواقفه التي تتسم بعدم الجدية واللامسؤولية والمراوغة في أغلب الأحيان، وكذلك المواقف والتصريحات، التي يطلقها الروس بالتزامن مع جولات “جنيف”، ولا سيما في الجولة الثالثة، ومنها التصريحات الخاصة بوفد المعارضة والمشككة في تمثيله للسوريين.
بطبيعة الحال، فإن تلك الأجواء على رداءتها وسلبياتها، لا تعطي أي مبررات لوفد المعارضة بأن يعلق مشاركته في المفاوضات، ولم يكن من الجائز اتخاذ موقف كهذا، لكن ذلك كان سببًا في توتير أجواء المفاوضات، التي ترافقت في الجولة الثالثة مع ثلاث نقاط.
أولى النقاط، كانت استدعاء وفود موازية لوفد المعارضة وإعطاءها صفة الوفود المعارضة. وباستثناء وفد مؤتمر القاهرة، فإن وفود موسكو وأستانة وحميميم، ليست من المعارضة في شيء، وقد تم تصنيعها، كما هو معروف، بالمشاركة ما بين روسيا ونظام الأسد، بل إن كثيرًا من أعضاء هذه الوفود أعضاء في مؤسسات النظام ومرتبطون بأجهزته الاستخباراتية، والبعض أعضاء في أحزاب مرخصة من قبل النظام، ويعملون تحت جناحه، ولم يكونوا في المعارضة قط، ومن هؤلاء يرغب الروس وبعض من الآخرين، أن يضيفوا إلى وفد المعارضة للحوار مع النظام، أو للتفاوض معه وفقًا لطلب المعارضة – حول الحل السياسي ومستقبل سوريا، ليصبح الوضع أقرب إلى أن النظام يحاور أو يفاوض ذاته.
والنقطة الثانية، أساسها موضوع التفاوض، إذا تجاوزنا فكرة الحوار. ففي الوقت الذي يجري فيه التأكيد على أن الهدف هو الانتقال السياسي، والمؤكد في موقف المعارضة استنادًا إلى المرجعية الدولية عبر تشكيل هيئة حكم انتقالي مناصفة بين النظام والمعارضة، تأخذ سوريا نحو نظام مختلف لنظام الاستبداد والقتل، يطرح الموقف الروسي رؤية النظام في تكريس الأخير، عبر تشكيل حكومة وحدة وطنية بمشاركة المعارضة، بما يعنيه من تعديلات جزئية، تكرس الواقع، وتعيد تجميل وتأهيل نظام ارتكب من الجرائم ما لم يرتكبه نظام ضد شعب قتلاً وتهجيرًا وتدميرًا لقدرات وإمكانيات الدولة والمجتمع، وألقى بنتائج جرائمه على المحيط الإقليمي والدولي حاضرًا ومستقبلاً، مما يجعل العالم كله، وكأنه شريك في الجرائم ضد السوريين، وليس الذين ارتكبوها، وسيفلتون من العقاب فحسب.
النقطة الثالثة، أنه وبالتزامن مع ما يحصل في “جنيف” من مجريات وطروحات، يتم اختراق هدنة وقف الأعمال العدائية المعلنة دوليًا في سوريا من قبل النظام وحلفائه الروس والإيرانيين والميليشيات، وتتصاعد العمليات ضد التجمعات السكانية، لتأخذ شكل المجازر الجماعية في الأماكن السكنية والأسواق الشعبية، مؤدية إلى مقتل وجرح المئات يوميًا، واستنزاف ما تبقى من إمكانيات حياتهم التي صارت قليلة للغاية. بل الأبشع من ذلك، إعلان شركاء النظام الإيرانيين والروس عن إرسال وحدات مقاتلة جديدة إلى سوريا، مما يزيد من اختلالات الواقع الميداني، ويجعل فرص الحل السياسي أبعد مما سبق.
وسط تلك الوقائع، بدت الحاجة ملحة لإحداث هزة في واقع “جنيف3”. وحتى لا تكون الهزة مجرد ردة فعل وانفعال على نحو ما درجت العادة غالبًا لدى المعارضة، فقد قامت الأخيرة بإعادة طرح الفكرة، التي يقوم عليها “جنيف” أساسًا، وهي الانتقال السياسي عبر التشاركية، ثم أضافت إليها ضرورة الالتزام بالإطار الذي انطلق منه “جنيف3″، وهو القرار 2254 في تأكيد معالجة الأوضاع الإنسانية، التي ما كانت قط، وحسب الواقع وتأكيدات الأمم المتحدة، موضع نقاش أو مساومة، وفيها موضوع رفع الحصار عن المناطق المحاصرة، وتمرير المساعدات الإنسانية الغذائية والصحية وإطلاق المعتقلين.
لهذه الأسباب المنطقية، أعلنت المعارضة تعليق مشاركتها في “جنيف3″، ولئن بدا في ذلك بعض التشدد، كما يرى بعض المعنيين ب”جنيف” من مشاركين ورعاة، فإن معالجة موقف المعارضة، لا تكون بمزيد من الضغط والإكراه من أطراف لا تقتصر على النظام وحلفائه من الروس والإيرانيين والمبعوث الدولي في التلويح ببدائل المعارضة، وعقد المفاوضات بمن حضر، ولا بضغوط بعض “أصدقاء الشعب السوري” بضرورة استمرار حضور المعارضة بكل الظروف والشروط، ثم تجاوز ذلك إلى استخدام القوة لإعادة المعارضة إلى المفاوضات عبر تصعيد الهجمات الميدانية ضد فصائل المعارضة المسلحة وحواضنها الاجتماعية، كما يحدث في حلب وريفها وإدلب من جانب النظام وحلفائه بالتزامن مع إضعاف القدرات الميدانية لقوى المعارضة المسلحة.
المعارضة بشقيها، السياسي والمسلح، طرف أصيل في المفاوضات من أجل حل سياسي في سوريا، ومن دونها لا يمكن تحقيق ذلك، ليس لأنها تملك قدرات ستساعد في تثبيت الحل سياسيًا وعسكريًا فقط، بل لأنها الجهة الأقرب لمطالب السوريين الأساسية في التغيير وإقامة نظام يوفر الحرية والعدالة والمساواة لكل السوريين، ودون مشاركتها لا يمكن الوصول إلى حل للقضية السورية.