المنطقة الآمنة: إلحاح تركي ورفض أميركي!

 

أكرم البني

مع أي تفاقم للصراع السوري وأي استعصاء للمبادرات السياسية، تنبري حكومة أنقرة لتكرار مطالبتها بإقامة منطقة آمنة شمال سورية على شريط حدودي بطول 80 كيلومتراً وبعمق يتجاوز أحياناً 40 كيلومتراً، في رهان على استثمار تداعيات المأساة السورية لمحاصرة الطموح القومي الكردي وتوسيع قوس نفوذها في المشرق العربي.

 

مغريات كثيرة تعرضها تركيا لتشجيع الغرب على اعتماد هذا الخيار، منها الظهور بمظهر الحريص على أرواح المدنيين، والترويج لأهمية المنطقة الآمنة في توفير ملاذ داخل الأراضي السورية للهاربين من أتون العنف، ما يخفف تواتر موجات النزوح إلى الخارج وأعباء دول أوروبا وبلدان الجوار، ومنها الادعاء بأن هذه المنطقة تمكنها من تعزيز قدراتها في رصد الحدود ومنع تسرب الجهاديين الوافدين إلى سورية والعراق، بما في ذلك طرد تنظيم داعش من المنافذ الحدودية ومحاصرته في الداخل السوري تمهيداً لسحقه.

 

وفي المقابل، كثيرة أيضاً الأسباب الحقيقية التي تقف وراء مطلب أنقرة بالمنطقة الآمنة، وهي تتقاطع إلى حد كبير مع الاشتراطات التي وضعتها للانخراط في التحالف الغربي ضد تنظيم داعش، تبدأ من ضرب الحضور السياسي الكردي في سورية وسحق تشكيلاته العسكرية لمنع إقامة كانتون قومي على حدودها، ما يضعف وزن حزب العمال الكردستاني ويعزز مواجهته عسكرياً وتطويع ملحقاته السياسية ووسطه الانتخابي، مروراً بتحويل المنطقة الآمنة إلى ما يشبه القاعدة لتجميع الهيئات والكوادر السياسية السورية المقربة منها وتسهيل تواصلهم مع الداخل، والأهم لتجميع مسلحي المعارضة والمتطوعين والمنشقين عن الجيش وتأهيلهم لمواجهة النظام، بما في ذلك جعلها مركزاً للتموين والاستراحة وإسعاف المصابين والجرحى، انتهاء بالرهان على إدارة هذه المنطقة لتفعيل نفوذ حكومة أنقرة وشرعنة حضورها السياسي والعسكري وفرصها في المحاصصة على المستقبل السوري وأوراق النفوذ المشرقية.

 

وإذ حظيت فكرة المنطقة الآمنة بقبول فرنسي وألماني وتفهم بريطاني بدافع مشترك هو التخلص من تدفق اللاجئين، فإن موقف البيت الأبيض الرافض بشدة لها يدل على أن خدعة المغريات التي تروج لم تنطل عليه، وتالياً على تحسبه مما تضمره أنقرة وتأثير ذلك على الاستقرار الإقليمي.

 

واستطراداً، هي متنوعة الركائز التي يرتكز عليها الموقف الأميركي الرافض لإقامة المنطقة الآمنة شمال البلاد.

 

أولاً، عدم ثقة واشنطن بنيات أنقرة في محاربة تنظيم داعش وفي وقف تدفق الجهاديين، يحدوها اعتقاد بوجود مصلحة لحزب العدالة والتنمية في تصاعد دور التطرف الإسلاموي كي تبقى الحاجة ماسة إليه في مواجهة الفكر الجهادي، وكي يعزز فرص القبول به غربياً كشريك يمثل الاعتدال الإسلامي، فكيف الحال وثمة معلومات أمنية تواترت عن دور للاستخبارات التركية في رعاية تنظيم داعش، ربطاً بتقارير غربية تؤكد استمرار تورط أنقرة في عملية تمرير المتطرفين والسلاح إلى سورية، وكيف الحال وحكومة حزب العدالة والتنمية لا تخفي ميلها لدعم جماعات المعارضة المسلحة ذات التوجه الإسلامي كي تضمن بديلاً للنظام متناغماً مع فكرها ومواقفها، الأمر الذي يضعف مشروع واشنطن في دعم المعارضة المسلحة المعتدلة وتأهيلها للمشاركة في التسوية السياسية، هذا إذا لم نتحدث، في ظل غموض هوية المقاتلين الذين تعتمدهم أنقرة وتدربهم، عن تخوف واشنطن الجدي من أن تهيمن جماعات تابعة لتنظيم القاعدة على المنطقة الآمنة.

 

ثانياً، وفق نهج أوباما، لا يمكن أن توافق واشنطن على منطقة آمنة من دون غطاء شرعي دولي، ومن المعروف أن مثل هذا الغطاء يستوجب موافقة مجلس الأمن ، الأمر الذي يستحيل تحقيقه مع فيتو روسي حاضر ورافض لأي تمدد تركي في الأراضي السورية، ويزيد الأمر تعقيداً خشية البيت الأبيض من أن يفضي التناغم الأوروبي مع مطلب أنقرة إلى استدراجه عبر حلف الناتو إلى موقع يكون فيه المسؤول عن فرض المنطقة الآمنة، ما يضعه وجهاً لوجه في مكاسرة مع موسكو وحليفتيها طهران ودمشق، المتفقون على ردع المطامع التركية، وتتضاعف هذه الخشية، مرة من الكلفة المادية الكبيرة لإنجاز هذا الهدف، وإدراك واشنطن أنها من سيقع على كاهلها جل الأعباء اللوجستية لجعل المنطقة المراد إنشاؤها آمنة فعلاً، ومرة ثانية، بسبب تنامي شكوكها من درجة وصدقية المشاركة الميدانية التركية في ضمان المنطقة الآمنة، وهي العارفة بوجود تحديات داخلية وإقليمية شتى أمام أنقرة يمكن أن تحول دون إرسال قوات كثيفة ومدربة إلى الأراضي السورية، خصوصاً بعدما هددت إيران بتحويل الأخيرة إلى مقبرة للجيش التركي.

 

ثالثاً، لا يمكن البيت الأبيض دفع موقفه قدماً من الصراع السوري والدور التركي فيه، من دون أخذ المصلحة الإسرائيلية في الاعتبار، وقد رشح من هذه الأخيرة أنها تعارض بشدة أي توسيع للنفوذ السياسي والعسكري التركي شرقاً، ويهمها جدياً محاصرة تنامي وزن حكومة العدالة والتنمية في لعبة التنافس على النفوذ والهيمنة الإقليميين.

 

رابعاً، ثمة موقف يبدو راسخاً لواشنطن في رفض المنطقة الآمنة وهو دعمها غير المحدود للدور الكردي السياسي والعسكري وثقتها به كأوفى الحلفاء في مواجهة الجماعات الجهادية وتنظيم داعش، والسؤال: لماذا قد يسمح البيت الأبيض لتركيا بإدارة منطقة هي ساحة تواجد حليفه الكردي، وأليس هو من رفض تلبية مطلب لحكومة أنقرة يقتصر على اعتبار حزب الاتحاد الديموقراطي الكردي السوري منظمة إرهابية؟!.

 

والحال، ربما من أجل مساعدة سوريين تشتد معاناتهم ويستعصى خلاصهم، يمكن تفهم ضرورة بذل جهد أممي يعمل على منطقة آمنة بعيدة من العنف والتنكيل وخالية من «داعش» والتنظيمات الإرهابية الأخرى، ولكن بين إلحاح تركي ورفض أميركي، يصح الاستنتاج بأن مشروع المنطقة الآمنة قد يغدو أشبه بكرة ثلج تتدحرج، تكبر ولا اتجاهات معروفة لها، ويرجح أن تفتح على معطيات وتحديات جديدة قد تمهد لجر المنطقة برمتها الى حروب بينية لا أفق لها.

Comments (0)
Add Comment