د. عبدا لله مدني
بعد أيام قليلة من انعقاد مؤتمر المعارضة الإيرانية في باريس في 9 يوليو الجاري، الذي حظيَ باهتمام إعلامي غير مسبوق وحضره نحو مئة ألف من المعارضين الإيرانيين في أوروبا وأميركا الشمالية ووفود رسمية وشعبية من شتى الدول المتضررة من السياسات الحمقاء لنظام طهران، تجمع في باريس أيضاً بالقرب من مقبرة «بير لاشيز» الآلاف من أكراد إيران الحالمين بالانعتاق من سطوة نظام الملالي الجائر. وكانت المناسبة هي الذكرى السنوية لرحيل زعيمهم رئيس الحزب «الديموقراطي الكردستاني الإيراني» الدكتور عبدالرحمن قاسملو الذي اغتالته يد المخابرات الإيرانية في عملية أشرف عليها الرئيس الإيراني الأسبق هاشمي رفسنجاني، وشارك فيها شخصياً الرئيس السابق محمود أحمدي نجاد. تلك العملية الدنيئة التي جرت في فيينا النمساوية يوم 13 يوليو 1989 بعد أن تم استدراج «قاسملو» إلى هناك لعقد مفاوضات مع طهران.
الكثيرون يعتقدون أن رأس الحربة في إسقاط النظام الإيراني هي المعارضة الإيرانية التي تقودها مريم رجوي، بينما يراهن آخرون على عرب الأحواز الناقمين على نظام طهران بسبب التمييز ضدهم وطمس هويتهم العربية وتغيير تركيبة مناطقهم بصورة ممنهجة، ناهيك باستغلال ثرواتهم البترولية في الحماقات الخارجية. لكني أعتقد أن رأس الحربة في إسقاط هذا النظام هم أكراد إيران لأسباب كثيرة.
فإضافةً إلى عوامل التمييز والقمع التي يعاني منها كل مكونات البلاد من غير العرق الفارسي من عرب وبلوش وآذاريين وتركمان، يمتلك أكراد إيران وحدهم شبكة كبيرة من التواصل الذي لم ينقطع قط مع إخوتهم في القومية المنتشرين في العراق وسوريا وتركيا. ومع ظهور شبه دولة كردية في شمال العراق بمؤسسات إدارية واقتصادية وأمنية وعسكرية مستقلة عن بغداد، ومع امتلاك كردستان العراق جيشاً مزوداً بأحدث الأسلحة الغربية ومقاتلين من ذوي الخبرة، فإنه بالإمكان تسخير كل هذا لمصلحة أكراد إيران المستضعفين، خصوصاً أن كردستان إيران تملك حدوداً مباشرة مع كردستان العراق. وبعض هذه العوامل لا يتوفر، بطبيعة الحال، للقوميات الإيرانية الأخرى.
أضف إلى ما سبق أن أكراد العراق لديهم سوابق في إقامة دولتهم المستقلة التي يتوقون إلى إحيائها. والإشارة هنا هي أولاً إلى «جمهورية آزاد ستان» (جمهورية الحرية) التي أسسها الزعيم الكردي «سمكو» في العشرينيات، ولم تعش إلا عدة أشهر، قبل أن يستدرج الإيرانيون «سمكو» إلى مدينة «شنو» للتفاوض ويقتلوه بأسلوب الخديعة. والإشارة هنا ثانياً هي إلى «جمهورية مهاباد» الكردية التي تأسست عام 1946 في شمال غرب إيران، وكانت لها قوات خاصة من البشمركة مدعومة من الاتحاد السوفييتي السابق الذي توغلت قواته حينذاك في الأراضي الإيرانية تحت ذريعة أن الشاه كان موالياً في الحرب العالمية الثانية للنازية. والقارئ للتاريخ الحديث سيكتشف أن هذه الدولة الأخيرة، التي دامت 11 شهراً، ما كانت لتنهار بقتل نحو 15 ألفاً من مؤيديها على يد القوات الإيرانية واعتقال رئيسها «قاضي محمد» ثم إعدامه مع أقربائه وأتباعه في الساحة التي أعلن منها الاستقلال، لولا تدخلات وضغوطات واشنطن من جهة، وتحالف بعض الأكراد المتنفذين مع النظام الشاهنشاهي بغية تحقيق مصالح آنية ضيقة من جهة أخرى.
وقد تكرر شيء من هذا القبيل قبيل قيام ما يُسمى بالثورة الإسلامية الخمينية حينما وضع «اليسار» الكردستاني ممثَّلاً في حركة «كوملا» المنشقة عن الحزب «الديموقراطي الكردستاني» يده مع بقية الأحزاب اليسارية في إيران للانقلاب على الشاه والإتيان بنظام الخميني تعويلاً على أن الأخير سيحقق لهم تطلعاتهم في الحكم الذاتي مثلما أوهم كل القوميات الإيرانية غير الفارسية في حينه. وكانت النتيجة هي المزيد من القمع والقتل والتشريد والحرمان من أدنى الحقوق السياسية والثقافية، بل ومنع الرموز الكردية من المشاركة في صياغة دستور البلاد الجديد. وفوق ذلك استخدمت إيران الخمينية أكرادها كوقود في حربها الطويلة مع العراق، فخسر الأكراد الآلاف المؤلفة من أبنائهم في تلك الحرب المجنونة دون أن ينالوا في المقابل شيئا يذكر، بل تآمرت طهران، بُعيد انتهاء الحرب، فاستخدمت يدها الآثمة في اغتيال «قاسلمو»، الذي كان يمثل لأكراد إيران رمزاً كبيراً من رموزهم المثقفة والمحترمة مع اثنين من رفاقه، حينما أمطرتهم بوابل من الرصاص وهم جالسون على طاولة المفاوضات في فيينا. الأمر الذي أحدث صدمة في العالم الحر بأسره، وأثبت بالتالي أن نظام الخميني نظام غدار لا يؤمَن جانبه. وقد قيل إن نظام الخميني كان يشعر دائماً بخطورة «قاسملو»، لأن فكرة إحياء «جمهورية مهاباد» كانت مستقرة في ضميره دوماً، خصوصاً أنه قام بمحاولة من أجل هذا الهدف في 1978 حينما قاد نحو عشرين ألفاً من قوات البشمركة، تمكن بها من السيطرة على ثماني مدن وعشرين بلدة كردية.
وهكذا نرى أن أكراد إيران لديهم ثارات مع النظام الإيراني الحالي أكثر مما لدى بقية مكونات الدولة الإيرانية، وبالتالي فهم أكثر استعداداً وتوقاً إلى الانتقام منه. بل أكثر جاهزية من غيرهم للتصدي له وفقاً للمعطيات التي ذكرناها آنفاً، بدليل أنه لا تمر ذكرى سنوية لاغتيال «قاسملو» إلا وتعمّ مظاهرات الاحتجاج والإضرابات وأعمال التصدي لقوات الحرس الثوري الإيراني وقوات الباسيج، مختلف مدن كردستان إيران، على نحو ما حدث في 13 يوليو الجاري. غير أن أي نجاح لأكراد إيران لجهة إسقاط نظام خامنئي مشروط بتوفر دعم إقليمي ودولي أولاً، وتنسيق ودعم من قبل القوميات الساخطة الأخرى غير الفارسية ثانياً.