بشير البكر
تأخرت حلب، حتى التحقت بالثورة السورية، لكنها، منذ ذلك الحين، صارت بؤرة الاشتباك الرئيسي، السياسي والعسكري، ومركز ثقل المأساة السورية بكل تجلياتها، وبات ثابتاً في الداخل والخارج أن مستقبل الوضع السوري يتعلق بحسم الموقف في حلب، الأمر الذي تتصرّف بموجبه الأطراف المعنية بمعادلة الصراع، وظهر جلياً من خلال مجريات الهجوم الكبير الذي شنته المعارضة في الأيام الأخيرة.
أعادت معركة حلب الدائرةُ منذ مساء الأحد الماضي، تصحيح بعض الاختلالات في النظر إلى وضعية المدينة قبل كل شيء، ومن ذلك مسألة الحصار التي حاول النظام أن يلعبها ورقةً لإنهاء المعارضة، واستخدامها وسيلة ضغط وسلاح في مفاوضات جنيف، وبعد أن حقّق تقدماً، في الشهر الأخير، على صعيد قطع خط الإمداد الوحيد، وتحكّم بطريق الكاستيلو الذي كان يربط شرقي المدينة بريفها، دخل الأسبوع الماضي في مساومة المعارضة على الاستسلام العسكري ورمي السلاح.
لم يكن في وسع النظام أن يحقّق هذا التقدم النوعي، لولا الدعم الروسي الذي بدأ منذ حوالي سنة، واتضح، في الأسابيع الأخيرة، أن خطة روسيا لتمكين النظام من حلب اعتمدت على تطبيق “نهج غروزني” في العاصمة الشيشانية التي حرثها الروس، ودمّروها فوق رؤوس سكانها، ليسيطروا عليها، وهذا ما يفسّر كيف أضحت المستشفيات ومحطات المياه في حلب وإدلب أهدافاً للطيران الروسي، وصار سلاح التجويع أداةً لإخضاع من تبقوا من السكان في القسم الشرقي من مدينة حلب الواقع تحت سيطرة المعارضة.
ذهب الروس والإيرانيون إلى حصار حلب، على الرغم من التحذيرات التي صدرت عن أطرافٍ إقليميةٍ ودوليةٍ من خطورة هذه الخطوة، والأمر الذي يبعث على الاستنكار أن الأمم المتحدة انساقت وراء ذلك، وتبنّت مسألة الممرات التي حدّدها الروس، من أجل تفريغ المدينة من المدنيين الموالين للمعارضة، وتسليم المقاتلين سلاحهم. وكانت زيارتا المبعوث الأممي، ستيفان دي ميستورا، إلى طهران، ونائبه رمزي يوسف رمزي إلى دمشق، في اليوم نفسه رسالةَ تسليمٍ بالخطة الروسية الإيرانية.
جاءت معركة حلب لتكشف أن هناك تسرّعاً روسياً إيرانياً في الحسابات، وخفةً وتواطؤاً من الأمم المتحدة، ذلك أن هؤلاء جميعا تجاوزوا ما تكرّس من قواعد اشتباكٍ في حلب على مدى العامين الماضيين. وفي العمق، أنه لا يحقّ لطرفٍ حسم المعركة لصالحه، وكثيراً ما ردّدت أطراف دولية وإقليمية أن الحل العسكري غير وارد. ولهذا، قامت آلية جنيف من أجل الاتفاق على عملية سياسية.
صحيحٌ أنه لم يتم رسم خطوط حمر في حلب. ولكن، على مدى عامين من الحرب، صار متعارفاً على جملة من الخطوط الحمر التي نشأت بفضل تفاهماتٍ غير مكتوبة بين الأطراف الإقليمية والدولية، ويمكن ملاحظة ذلك من سير المعارك العسكرية، وظهر أكثر من مرة أنه لا يكفي أن يكون طرفٌ ما قادراً عسكرياً، حتى يمسك بالأرض، وتبيّن أن الميدان هو ساحة اشتباك، وليس مكاناً للنصر أو الهزيمة. ومن هنا، يعتبر قرار الروس والإيرانيين قطع طريق الكاستيلو على حلب، وفرض الحصار، خرقاً خطيراً للتفاهمات، وكان الرد عليه من خلال معركة حلب التي جاءت لتفرض حصاراً على النظام، وباتت المعادلة اليوم قائمةً على تبادل الحصارات.
ومن دون شك، تعتبر تركيا الطرف الأكثر تضرّراً من حصار مناطق المعارضة، ليس فقط لأن حلفاءها فقدوا موقعاً مهماً في مسار الحرب، وإنما لأنها ستتحمل وحدها عبء استقبال عشرات الآلاف من اللاجئين. ولذا، كانت قريبةً جداً من تحضيرات معركة “الغضب لحلب”، وستظل طرفاً أساسياً فيها، وسيكون لرأيها دور في تحديد مآلاتها.
هدف معركة حلب المباشر هو فك الحصار عن مناطق المعارضة، لكن النتائج مرشّحةُ أن تقرّر مصير سورية.