أيمن الصفدي
لا يُمكن فهم دعوة المبعوث الأممي لسورية ستيفان دي ميستورا عقد جولةٍ ثالثةٍ من المفاوضات قبل نهاية الشهر الحالي إلّا في سياق التذكير أنّ ثمّة مساراً سياسيّاً دوليّاً لمحاولة حلّ الأزمة السوريّة. ذاك أنّ فرص نجاح المباحثات ما تزال معدومة. وليس هناك أيّ أملٍ في أن تنتهي الجولة القادمة إلى أفضل ممّا انتهت إليه سابقاتها.
لم تنضج شروط الحل السياسي في سورية بعد. النظام ما يزال يؤمن أنّه قادرٌ على أن يحقق انتصاراتٍ عسكريّةٍ ستمكّنه حسم الصراع لمصلحته. المعارضة السوريّة ما تزال مشتّتةً مقسّمة. دول الجوار التي لعبت الدور الأكبر في تعميق الأزمة ماضيةٌ في سياساتها التي تضع مصالح الشعب السوري في أدنى أولوياتها، بينما تستفحل في تدخلّاتها التي أسهمت في الكارثة التي صارتها سورية. وروسيا والولايات المتحدة تحيّدان خلافهما حول الحلّ السوري بينما ترتّبان ملفّاتهما الأخرى وتحصران توافقاتهما السوريّة في محاربة “داعش”.
في الأثناء، تصبح “النصرة” ذات الجذور والعقائديّة “القاعديّة” المجرمة في قاموس بعض الإعلام العربي ذي الحضور الواسع “معارضةً وطنيّة”، وفي حسابات بعض دول الإقليم حليفاً. وبعد خمس سنواتٍ من ثورة الشعب السوري على بطش الأسد، لا إنكار لحقيقة أنّ قوّات النظام وقوّات الإرهاب بفصائلها المختلفة تتقاسم السيطرة على معظم الأرض السوريّة.
ليس من أجل هذا هبّ السوريون على النظام وقمعه. ولا يشكّل انتزاع جبهة النصرة وفصائل الإرهاب التي تقف معها السيطرة على حلب من قوّات النظام ومليشيات القتل التي تدعمها انتصاراً للشعب السوري. فلم تكن هزيمة النظام في الرقّة تحرّراً من القمع. والمدنيّون الذين يستخدمهم “داعش” في منبج اليوم دروعاً بشريّةً تذكارٌ يوميٌّ على عمق الجرائم التي ارتكبت بحقّ الشعب السوريّ، ليس على يد النظام فقط، بل على يد كلّ من موّل هؤلاء الوحوش وأمثالهم وسلّحهم من دون الالتفات إلى تبعات تمكينهم على الناس وعلى مستقبل البلد والمنطقة.
لكنّ أحداً لا يكترث. فكلفة الحرب ثقيلةٌ على السوريّين خفيفةٌ على الذين أحالوا سورية ساحاتٍ لاختبار القوّة وتصفية الحسابات والسعي نحو الأطماع الجنونيّة في السلطة والسطوة. لذلك تستمرّ الحرب. النظام متمترسٌ في “كنتونات” نفوذ، وسيحارب لحماية سلطته مهما استطاع، ومهما قتل من السوريّين. والإرهابيّون ودعاة احتكار الحقّ والحقيقة ورعاتهم الإقليميّون سيقاتلون حتى آخر سوري.
خسر الشعب السوريّ ثورته لحظة صارت أداةً إقليميّة، ودعم الطامحون والطامعون من دول الإقليم كلّ من رفع السلاح على حساب من حمل الفكر والرؤية من قادة الربيع السوري، الذين ثاروا لإعادة إحياء إرث الشام الحضاريّ التعدّديّ المستنير، لا لدفنه تحت ثقل الجهل الإقصائيّ الإلغائيّ.
لحظة ذاك تعمّقت المأساة التي صنعها النظام بدايةً. ولا حلّ في سورية من دون العودة إلى منطلقات الثورة الإنسانيّة التعدديّة الحضاريّة الأولى. بيد أنّ ذاك بات أشدّ صعوبة في شرقٍ عربيٍّ صار فيه الدعاء بالرحمة لشابٍّ مسيحي، رحمه الله، محلّ سجال.
الصراع في بلاد العرب هو في أساسه صراعٌ بين الجهل والعقل، بين الظلاميّات الإلغائيّة وبين الهويّات الفكريّة والثقافيّة التعدديّة المنفتحة. نستطيع أن ندفن رؤوسنا في الرمال ما شئنا. لكنّ ذلك لا يغيّر حقيقة أنّ الجهل يتمدّد، وأنّ المعركة ضدّه لم تبدأ بعد. وإلى أن تبدأ تلك المعركة، ستتفاقم الحروب، وسيزداد الدمار، وسيموت مستقبل الأطفال الذين ينشؤون في قهر المخيّمات وضيق الفكر.