علي العبد الله
في حديث حول القضية الكردية مع صديق من المدرسة القومية يرفض الاعتراف بأية حقوق للكرد في سوريا، فأردت أن أختبر موقفه أهو مصلحي أم عنصري، فقلت له “إن الكتلة الرئيسة للكرد موجودة بين بحيرة أروميا(إيران) وبحيرة وان(تركيا) وإذا حصل وقامت دولة كردية فستقوم هناك على الأرجح، لكن صديقي رفض وبقي على موقفه: “الكرد ليسوا أمة كي يقيموا دولة”.
تذكرت هذا الحديث وأنا أتابع السجال العربي الكردي على صفحات الفيسبوك تعليقا على مقالتي: حول “إسرائيل الثانية”، حيث أنطلق طرفا السجال من مواقف مسبقة وحدّية بلغت حدود التجريح الشخصي والقومي دون اعتبار لما يمكن ان يترتب على هذه المواقف من ردود أفعال ونتائج سلبية على مصالح الطرفين.
لايعقل أن يتبنى إنسان ما موقفا يخرجه من دائرة العقل والمنطق، فالعرب الذين لا ينظرون الى الكرد إلا كشعب فاقد للأهلية لا ينكرون الواقع المعاصر وحقائقه فقط بل يدمرون ارثهم الحضاري والثقافي، إرث جذره إسلامي وفروعه ثمار لتفاعل إنساني مع شروط المكان والزمان شاركتهم في صنعه شعوب الأمة الإسلامية بمن في ذلك الكرد، ويضربون القيم التي بنتها تلك الحضارة وعممتها بين شعوبها وأساسها المساواة بين المسلمين: فكل من يدخل في الدين الإسلامي يصبح كعامة المسلمين في الحقوق والواجبات بغض النظر عن عرقه أو أسبقيته في الاسلام.
ذهب معظم العرب الذين شاركوا في السجال الى تبني مواقف سلبية وحادة من الأمة الكردية وحقوق الشعب الكردي مدفوعين بمشاعر اللحظة الراهنة وما تنطوي عليه من ضغوط نفسية خلّفت توترا وغضبا على خلفية ممارسات حزب الاتحاد الديمقراطي وما فعله في مناطق وقرى عربية سيطر عليها في شمال وشرق سوريا من قتل وتدمير وتهجير للمواطنين العرب، ومواقف بعض القوى الكردية التي نشرت خرائط لما تعتبره أرض كردستان التاريخية والتي ستكون أرض الدولة الكردية المنشودة. وقد ذهبوا في سجالهم مذاهب عجيبة انكرت على الكرد وجودهم القديم في المنطقة وركزت على كونهم وافدين من مناطق بعيدة، كمدخل لانكار حقهم في ارض ودولة، ولدورهم في الحضارة الانسانية بعامة والحضارة الاسلامية بخاصة، متجاهلين ان كل شعوب المنطقة وفدوا اليها من خارجها، وان الهجرات الرئيسة(القديمة) حصلت قبل دخول المجتمعات الانسانية في مرحلة اختصاص شعب بارض، التي حصلت بعد ذلك بقرون والتي رتبت حقوقا وطنية وسيادية بارض خاصة، حيث كانت هجرات العشائر والقبائل بحثا عن الكلأ والماء، وبدء استقرارها على ضفاف الانهار والسهول الغنية بالاعشاب، التي اثمرت قرى زراعية فدول المدن التي تحولت في ما بعد الى دول امبراطورية عن طريق غزو الاراضي المجاورة ثم الابعد فالابعد، وكان القانون الحاكم للعلاقات بين الدول الامبراطورية هو “حق الفتح”، ارض وشعب الامبراطورية تحدده قدرتها على الغزو وتحقيق انتصارات على الخصوم، هذا الحق استمر رغم توقيع اتفاقية وستفاليا عام 1680، التي اقرت بالحدود الوطنية للدول لكنها بقيت اتفاقية اوروبية محضة، حتى ألغتها منظمة عصبة الامم في القرن العشرين.
كان المنطقي والمجدي بالنسبة للعرب التمييز بين الشعب الكردي والأحزاب الكردية والاعتراف بالأول والإقرار بحقوقه الطبيعية كشعب، على قاعدة المعاملة بالمثل: إن تقبل لغيرك ما تقبله لنفسك، والأخذ بالاعتبار حقائق التاريخ ومترتباتها باعتبار الكرد جزءا أصيلا من شعوب المنطقة وليس طارئا فيها، والتعاطي مع ممارسات الأحزاب الكردية وفق المنطق السياسي على قاعدة صراع/حوار والبحث عن حل مرحلي أو دائم يستلهم التاريخ بحلقاته الثلاث الماضي والحاضر والمستقبل، حل يقر بالحقوق فينهي العداوة ويفكك حالة الاستنفار والاستقطاب، يحقن الدماء ويجنب المنطقة الدمار.
كذلك فان معظم الكرد الذين شاركوا في السجال لم يكن موقفهم أفضل حالا من موقف غرمائهم العرب، فقد انزلقوا الى المهاترات حول ماضي العرب “رعيان غنم”، وإنكار حقائق التاريخ حول وجود العرب في منطقة الهلال الخصيب، وأصروا على أنه حديث لا يزيد عن قرنين قبل الميلاد، ربطوه بقيام دولتي الغساسنة والمناذرة، مع ان حركة صغيرة على الشبكة العنكبوتية واستشارة محرك البحث غوغل كانت كافية لتجنب غير العارفين منهم الوقوع في الخطأ او الاجحاف حيث تؤكد المعطيات التاريخية ان اولى موجات الهجرة العربية من الجزيرة واليمن الى وادي الرافدين تمت 7000 سنة قبل الميلاد وفق ما اكده عالم المسماريات والسومريات الأميركي الدكتور صموئيل كريمر في كتابه “من ألواح سومر”، لكن كما يقول المثل اللبناني “مو رمانة قلوب مليانة”، مع ميلهم ليس للتبرؤ من التاريخ المشترك فقط بل وللانتقام منه باعلان قطيعة مع المشتركات التاريخية وتحميل الاسلام تبعة ما آل اليه وضعهم الراهن كونهم اكبر شعب في العالم (40 مليون نسمة) بلا دولة خاصة. موقف عدمي لان التاريخ المشترك أغنى تراث الكرد الحضاري وادخلهم في دائرة تفاعل كبيرة وغنية، كانت الارقى آنذاك، وهذا نقلهم مراحل في سلم الحضارة وأشركهم ليس في صياغة التاريخ فقط بل وقيادته حيث غدوا به جزءا من حضارة صاعدة ومتفوقة، ناهيك عما يتركه التخلي عنه من فراغات في التاريخ والشخصية الكرديين ويشكله من حالة فصام وعدم توازن.
واقع الحال إننا جميعا، العرب والكرد، في موقف لا نُحسد عليه فالمرحلة دقيقة وخطيرة وتنطوي على احتمالات مأساوية تستدعي من عقلاء الطرفين التفكير بعقل بارد للخروج باستنتاجات واقعية وحلول عملية، فالعرب الذين أنكروا على الكرد كيانهم، كونهم شعباً وأمة، وتاريخهم وحقوقهم مدعوون لإعادة النظر في موقفهم والإقرار بالأخطاء التي ارتُكبت بحق الكرد وما ترتب عليها من مظالم وإجحاف، لأنه المدخل العملي الوحيد للذهاب الى مخرج عملي يفتح على حل متفق عليه ينهي مبررات الصدام ويجنب الجميع الدماء والدمار. والكرد الذين بادروا الى التحرك واغتنام اللحظة السياسية واستثمار الموقف الدولي الداعم لهم مطالبون بالتأني ومراجعة الاستنتاجات التي بنوا عليها قرارهم بالذهاب في استثمار الفرصة الى أقصاها بتجاهل تام لمصالح شركاء التاريخ والجغرافيا، وليتذكروا تاريخهم مع الوعود الخارجية، وليتثبتوا من صلابة الأرض التي يقفون عليها، فالمرحلة الراهنة بالغة السيولة والتغير فيها محتمل بين لحظة وأخرى، فحل توافقي أفضل من حل أمر واقع تتيحه ظروف غير ثابتة أو دائمة، فالأخير وصفة لعدم استقرار ولحروب طويلة ومناخ للرضوخ للداعمين والوقوع في حالة تبعية دائمة لهم. وهذا ينطبق على الأتراك والايرانيين، لانهم طرف في القضية والمأزق القائم والقادم.