عبدالوهاب بدرخان
هناك ظاهرتان تتكرّران كلّما تعرّض نظام بشار الأسد لانتكاسة. أمّا الأولى فيصار فيها إلى تلفزة المفتي أحمد بدر حسّون مستنهضاً الهمم للدفاع عن النظام، لكنه هذه المرّة، بعد كسر الحصار على حلب، مسقط رأسه، سُمع يستنهض «الأصدقاء» ولا سيما الروس و»حزب الله» على رغم أن وجودهم في معركة الكليات العسكرية لم يُحدث أي فارق. وأمّا الثانية فيُسجَّل فيها، مجدّداً، استخدام المواد الكيماوية والغازات السامة، كما حصل في سراقب قبل أيام بعد غوطة دمشق (عام 2013) وكما تكرّر في حلب لتمكين النظام وحليفه الروسي من اتهام فصائل المعارضة بأنها ترمي الغاز على مناطقها ثم على مناطق النظام. كان واضحاً أن الروس عمدوا الى قصف وحشي لسراقب انتقاماً لقتلاهم الخمسة في واقعة إسقاط مروحية كانت تقوم بـ «مهمة إنسانية»، وشارك النظام في هذا الانتقام مستنهضاً احتياطه الكيماوي. وبذلك أصبح معروفاً كيف يريد النظام وحلفاؤه الردّ على هزائمهم، وبأي سلاح يخطّطون لحسم الصراع في سورية.
كان تحقيق «سيناريو الأحلام» بالنسبة إلى الأسد بدأ يقترب منذ لحظة إطباق الحصار على حلب. إذ حُدّد موعد أواخر آب (أغسطس) لاستئناف المفاوضات السورية كي يتزامن مع انتهاء قوات النظام والميليشيات الايرانية من استعادة السيطرة على أحياء حلب الشرقية. وكان ستافان دي ميستورا أعلن هذا الموعد بعد اجتماعه في جنيف مع الموفدَين الاميركي والروسي الخاصَّين بسورية. وفي الأثناء كانت اتصالات جون كيري – سيرغي لافروف مستمرّة للتوصّل الى اتفاق يشمل تعاوناً عسكرياً واستخبارياً لم يبدُ محسوماً من جانب البنتاغون، وتفاهماً على صيغة حل سياسي بدا فيها البيت الابيض متساهلاً بالنسبة الى «مصير» الأسد.
شكّل هذا التنازل الأميركي، مع الحصار المفروض على حلب، مُعطيَين مشجّعَين لنائب المبعوث الأممي رمزي عزالدين رمزي، صديق النظام، كي يلبي دعوة خاصة من الأسد ويقنع دمشق بأن تلعب بـ «ايجابية» لعبة المفاوضات، لأن الظروف مواتية لاستثمار التطوّرات العسكرية في توجيه التسوية السياسية، وتجاوبت دمشق مؤكّدة مشاركتها في المفاوضات، باعتبار أن الموقف الدولي حُسم لمصلحتها وأصبح رهن مواءمة «انتصاراتها» العسكرية مع اطروحاتها السياسية. وفيما جرى الترويج لـ «هدنة» يناقشها الروس والأميركيون، ولـ «ممرات انسانية» تبنّاها الروس بعدما أعلنها النظام متبرّعاً بـ «عفو خاص» عن المقاتلين الذين يلقون السلاح ويسلّمون أنفسهم، راح دي ميستورا يتظاهر بالتشدّد في ضرورة تسليم «الممرات» للأمم المتحدة. ومع علمه أن ذلك لن يحصل، إلا أنه وجده مناسباً للتغطية على تفاهمات اميركية – روسية «متقدّمة» تلبّي مطالب النظام وحلفائه، وعلى كون «الهدنة» المقترحة تعزّز عملياً الحصار وتثبّته، لكن أيضاً للإيحاء بأن الأمم المتحدة لا تتساهل في الجانب الإنساني الذي تلحّ عليه المعارضة.
على هذه الخلفية بدأت فصائل المعارضة في حلب معركة كسر الحصار، غير معنية بكل ما يُتدَاوَل عن الهدنة و»الممرات الإنسانية» والإغاثات، لكن تحركاتها على الأرض اخترقت الكواليس الديبلوماسية، أكثر مما فعلت في مراحل سابقة. فكل ما بني على أساس أن تصفية المعارضة صارت مسألة أسابيع قليلة، وأن المفاوضات يجب أن تُستأنف «من دون شروط مسبقة (من المعارضة)»، انهار في غضون ساعات قليلة ما استغرقته المرحلة الأولى من المعركة، ثم تأكد انهياره في غضون أيام قليلة عندما بلغت قوات المعارضة مواقع الكليات العسكرية التي لم تكن تهاجمها سابقاً ولم تتوقّع يوماً أن تسيطر عليها… قد يبدو الحدث وكأن فيه لغزاً، خصوصاً أن المواقع المقتَحَمَة لم تحاول صدّ الهجمات ولم تقاتل، لكن أهم ما برهنته المعركة أن للأرض منطقها الذي يجهله المتدخلون الخارجيون سواء كانوا دولة عظمى كروسيا أو «حرساً ثورياً» ايرانياً أو ميليشيات مذهبية استوردتها ايران.
لم يكن واقعياً أن تذهب القوى الخارجية، بما فيها الولايات المتحدة، بعيداً في استسهال الاعتقاد بأن فصائل المعارضة باتت جاهزة للتصفية أو الاستسلام. بل انها بالغت في التقليل من توقّعات الردّ على الحصار وإمكان استخدامه للضغط على المعارضة السياسية واستدراج استسلامها. هذه حسابات كانت يقينية وينبغي الآن تغييرها جذرياً، ليس نتيجة انتصارات المعارضة فحسب، بل لانكشاف تشوّش مساعي إنهاء الصراع وتأرجحها بين مشاريع عدّة، اميركية – روسية، روسية – إيرانية، إيرانية – أسدية، وروسية – أسدية… وهي مشاريع متناقضة كلّما اقترب أصحابها من التلاقي في نقطة وسط يتبيّن لهم أنها غير واقعية، إذ يتحايلون على بعضهم بعضاً ويتلاعبون بالحل السياسي لمصلحة العسكري، وبالقرار 2254 لمصلحة حلول الأمر الواقع. فالساحة المتاحة والمستباحة تغريهم بالعبث، بمن فيهم نظام الأسد الذي يتصرّف منذ اليوم الأول كطرف خارجي غير معنيّ بسورية ولا بشعبها.
فما يريده النظام وإيران لا يسهّل مهمة روسيا ولا يتيح لها استثمار تدخلها للحصول على تنازلات اميركية خارج سورية. وليس واضحاً تماماً ما يريده الروس لكن غرقهم في خطط تحقّق أهداف النظام وإيران لا يمكّنهم من «بيع» هذه الأهداف إلى الأميركيين، ويحول بالتالي دون تفاهم روسي – أميركي شامل. فموسكو تتفاوض مثلاً على الهدنة والحل السياسي فيما يقتل طياروها المدنيين في حلب وسراقب والأتارب ويدمّرون المستشفيات تفعيلاً للحل العسكري. وحين تفاوض واشنطن على تنسيق لضرب «داعش» و»جبهة النصرة» لا تتردّد في «بيع» أي شيء يتعلّق بمصلحة الشعب السوري لأن إدارة باراك أوباما لم تكن يوماً معنية بهذا الشعب بل بالفرص المتاحة لها لاستغلال قضيته. وإذا كان هناك طرف واحد مستفيد في الحالين، أي من اتفاق الروس والأميركيين أو حتى من خلافهم، فلا شك في أنه التحالف الأسدي – الإيراني، لأن الأفكار المتداولة (بقاء الأسد في منصبه، حكومة تضم معارضين، معالجة الأزمة باعتبارها مواجهة بين النظام ومجموعات ارهابية…) تبقى جميعاً تحت سقف الشروط التي وضعها هذا التحالف وتتكفّل روسيا بتسويقها.
ما الذي توقّعه الروس من محاصرة حلب تحت غطائهم الجوي، تلبية لرغبة الأسد والإيرانيين الذين صوّروا إسقاط المدينة بأنه نهاية المطاف، بل مفتاح الحسم سورياً وإقليمياً؟ كان ذلك خطأً معلناً حتى قبل حدوثه، ليس بسبب تشدّد تطرّف «جبهة فتح الشام» («النصرة» سابقاً) بل لأن الفصائل الأخرى، المصنّفة «معتدلة» اميركياً، أكثر تشدّداً في ما يتعلّق بمسار «ثورة الشعب» ومصيرها. أراد الحصار وضع هذه الفصائل أمام خيارات الاستسلام أو الموت بالتقاتل في ما بينها أو انتظار الموت على يد النظام والميليشيات، لذلك بدا خيار توحيد الصفوف والجهود هو الأجدى. ظلّت الفصائل متحفّظة في توقّعاتها حتى بعد شروعها في المعركة، وهي في أي حال كانت تنفّذ خططاً وُضعت سابقاً وكان يُفترض أن تطبّق غداة سقوط ادلب في ربيع 2015 لكنها جُمّدت بضغوط «صديقة» ولإتاحة فرص للحلول السياسية، ثم مُدّد تجميدها لتفادي استفزاز روسيا على رغم أن طيرانها ذهب الى أقصى الإجرام في استهداف المدنيين. إلا أن الحصار أسقط كل الضغوط والتحفّظات، وعلى رغم تخوّف المؤيّدين والمتعاطفين من الغطاء الجوي الروسي إلا أنهم كانوا متيقنين بإمكان نجاح الفصائل في أي مواجهة برّية مع قوات النظام والميليشيات، وإذا بها تفجّر الصدمة وتفاجئ الجميع.
في الأساس كان حصار حلب وإسقاطها هدفاً للأسد والإيرانيين، فمنذ منتصف 2012 أدركوا أن الخطر الحقيقي على دمشق يكمن في حلب، وبدءاً من 2014 حاولوا مراراً محاصرتها واختراقها ولم يفلحوا، الى أن منحهم الروس فرصة يصعب تكرارها لأن معركة كسر الحصار كشفت للحلفاء مدى هشاشة النظام، حتى أنهم يصفون قواته بأنها «مهزومة داخلياً». ليس للروس أن ينساقوا الى مطامع الإيرانيين وإلا فإن كلفة تورّطهم في حرب مذهبية ستفوق تصوّراتهم، ومن شأنهم أن يتذكّروا أن المعادلة الميدانية الراهنة هي الحد الأدنى الذي يتيح حلّاً سياسياً وأي محاولة لتغييرها تقوّضه. وفي كل الأحوال لن يستقيم أي حل من دون تنازلات تتعلّق بمصير الأسد ورموز نظام