عبدالباسط سيدا
ما نعيشه راهناً من تناغم بين إدارة الرئيس أوباما والنظام الإيراني في مختلف القضايا التي تهم المنطقة، ليس بالأمر الجديد المقتصر على هذه الإدارة وحدها، بل هو امتداد لحزمة تفاهمات، بدأت بصورة ملموسة في الفترة التي سبقت إسقاط حكم «طالبان» (خريف 2001)، وربما قبلها، واستمرت في ما بعد في العراق، قبل وبعد إسقاط حكم صدام حسين (ربيع 2003). ويبدو أن الاستراتيجيين الأميركيين الذين توقفوا مطولاً عند ظاهرة «القاعدة» وغيرها، تحليلاً وتفسيراً واستشرافاً، خرجوا بجملة مقترحات استهدفت المصادرة على الأخطار الخارجية لتلك الظاهرة، بخاصة بعد أن وصلت عملياتها إلى العمق الاقتصادي الأهم في الولايات المتحدة الأميركية نفسها. ويظهر أن التوافق حصل حول اتخاذ جملة إجراءات وخطوات من شأنها تفجير العالم الإسلامي، إذا جاز لنا استخدام هذا المصطلح، من الداخل على مستوى المجتمعات والدول.
والحالة الأفغانية ربما لا تستوقف كثيراً، لأن الوضعية العامة في أفغانستان كانت منهكة أصلاً قبل الدخول السوفياتي إلى البلد، وبعد خروجه، ووصول «طالبان» بدعم من «القاعدة»، ومن ثم الغزو الأميركي للبلد الذي ما زالت نتائجه تتفاعل، سواء في الداخل الأفغاني، أم في جواره الإقليمي.
ولكن ما حصل في العراق كان المقدمة لخلخلة البنية المجتمعية والسياسية في المنطقة. وكان من البيّن أن هناك سياسة غض نظر أميركية حول الدور الإيراني – السوري في العراق في مرحلة ما بعد صدام، وذلك من جهة دفع الأمور نحو الفوضى العارمة عبر ميليشيات مذهبية قوموية، ومجموعات ارهابية تبادلت الأدوار في ما بينها، ووضعت الجميع أمام واقع حرب أهلية مذهبية مقيتة بدّدت إمكانات العراق، وكلّفت العراقيين أرقاماً فلكية على صعيد الضحايا البشرية والتكاليف.
ومع الانسحاب الأميركي من العراق لأسباب شتى، بدأت المرحلة الحاسمة من التغلغل الإيراني في مفاصل ودقائق الدولة والمجتمع العراقيين على مختلف المستويات. ويبدو أن سلاح الإفساد المالي كان وسيلة لشراء ذمم أعضاء الطبقة السياسية العراقية من مختلف الانتماءات والاتجاهات، حتى بات الجميع مداناً.
ولم تقتصر سياسة غض النظر الأميركية تجاه السياسات والامتدادات الإيرانية في المنطقة على الساحة العراقية وحدها، بل شملت الساحة اللبنانية أيضاَ، التي شهدت سلسلة اغتيالات لنخبة من المثقفين والسياسيين المنتقدين للسياسات السورية والإيرانية في لبنان، والمطالبين بضرورة احترام استقلالية القرار اللبناني. وقد بلغت تلك الاغتيالات الذروة مع اغتيال الرئيس رفيق الحريري؛ ورغم التطورات الدراماتيكية التي أعقبت عملية الاغتيال، وخروج النظام السوري العسكري العلني من لبنان مرغماً، بعد الجهد اللافت الذي بذله الرئيس الفرنسي الأسبق جاك شيراك على صعيد تشكيل موقف ضاغط مطالب بمعاقبة الجناة عبر محكمة دولية خاصة، وجدنا تراجعاً في الحماس أميركياً، واستمرارية في سياسة غض النظر. وهذا ما تجلى من خلال تحوّل المحكمة التي تشكلت للتحقيق في قضية الاغتيالات إلى حديث مناسباتي، أو مجرد أداة للذكرى قد تستخدم في وقت ما، لكنها لم تعد تلك الورقة الضاغطة التي اعتقد الجميع بأنها ستكون المدخل لمحاسبة النظام السوري وشركائه على جرائمهم، وللحد من تغلغل النفوذ الإيراني في لبنان وسورية.
أما في سورية، فكان هناك غض نظر يستوقف في مواجهة التدخل الإيراني السافر، بل تم التعامل مع هذا التدخل المتصاعد باستمرار وكأنه غير موجود. بينما كان الحديث يتمحور حول خطر الإرهاب الأصولي السني تحديداً، حتى أن بعضهم ذهب إلى حد القول بضرورة تفضيل الإرهاب «الشيعي المنضبط»، على الإرهاب «السني المنفلت». الأمر الذي فُسّر بأنه ضوء أخضر للنظام الإيراني وأذرعه في المنطقة، يمنحهم حرية التصرف والحركة ضمن المساحات المتفق عليها. ولعل هذا ما يفسر جانباً من جوانب خطابات حسن نصرالله التعبوية، والتهديدات والتبجحات التي يطلقها المسؤولون الإيرانيون من حين إلى آخر.
النظام الإيراني هو المتحكّم بإرادة سورية – الموالاة وهذا ليس بالسر غير المعروف. فبشار الأسد قد سلّم الراعي الإيراني المفاتيح جميعها، بخاصة بعد عملية اغتيال الحريري. وقد تشخّص ذلك في تغييب الكثير من الأسماء ضمن الدائرة الضيقة المحسوبة عليه، وذلك من باب المحافظة على الولاءات المطلقة المضمونة الجانب، ومصادرة على احتمالات قد لا تكون نتائجها محمودة. ولعل مثال تغييب غازي كنعان واحد من الأمثلة القوية التي تستدعي التأمل في هذا المجال.
الوقود الذاتي الذي يُستخدم في تدمير إمكانات المنطقة، وتمزيق نسيجها المجتمعي هو الصراع المذهبي الشيعي – السني بكل أسف. هذا الصراع الذي أسس له النظام الإيراني منذ بدايات المرحلة الخمينية، لكنه أصبح فاعلاً مؤثراً نتيجة الأخطاء الكبرى التي ارتكبها النظام السياسي العربي الرسمي، الذي تنازل عن واجباته تجاه مواطنيه الشيعة، وتجاهل دلالات وأهداف الإصرار الإيراني على إضعاف المرجعيات الشيعية الوطنية، مقابل سعي منه لاحتكارها في ذاته، حتى غدت الغرائز القطيعية هي الموجهة للسلوكيات، وردود الأفعال العصوبية هي النوذج المهيمن.
الولايات المتحدة الأميركية وغيرها من الدول الكبرى لها مصالح وحسابات في إدارة الأزمات والتحكّم بها، والاستفادة من تناطح القوى. لكننا نحن أصحاب المنطقة، والمصير يخص أجيالنا المقبلة. والصراع المذهبي الذي يهددنا جميعاً هو صراع غير مسبوق، لا يهدّد فقط تمظهرات وجودنا، بل يهدّد هذا الوجود نفسه، هذا ما لم تُتخذ خطوات جادة لإيقافه، وإبطال مفاعليه. أما أن نتحوّل من جانبنا، وبمفعول رجعي، إلى أدوات في مشروع طائفي عدمي مجنون، فهذا فحواه أن المأساة قد تمكّنت منا، واننا قد سهّلنا بإمكاناتنا الذاتية مهمات المتربصين، ومنحناهم الفرصة الذهبية لتمرير ما نعتقد انه مشاريع لا تحمل لنا أية بشائر توحي بربيع قادم. الزلازل التي تشهدها المنطقة لن يسلم منها أحد، وهذا مؤداه أن الجميع ومن دون أي استثناء، بخاصة على مستوى النخب المجتمعية، مطالب بالعودة إلى الموضوعية الحكيمة، الموضوعية التي تعطي الاعتبار الأول لمصالح تعايش الأجيال ومستقبلها بصرف النظر عن انتماءاتها وتبايناتها.