روسيا وتركيا: التاريخ والجغرافيا و… المصالح

عبدالباسط سيدا

 

تركيا دولة آسيوية في القسم الأعظم من جغرافيتها، وهي دولة مشرقية بثقافتها، وتاريخها، وطبيعة تديّنها، وسلوكية أهلها، ولكنها اختارت حتى في مراحل من عهدها العثماني أن تكون قريبة من الغرب، مستفيدة من تجربته ومعارفه وتقنياته. ولكنها في الوقت ذاته كانت تبحث عن بدائل تمكّنها من التحرّك بحرية في محيطها المشرقي، بعيداً عن الحروب والتهديدات الروسية المستمرة.

 

ويبدو أن الغرب، بخاصة في مرحلته الأميركية، وبعد تجاوز تبعات تآمر الحلفاء ضد الدولة العثمانية الذي بلغ ذروته في الحرب العالمية الأولى 1914-1918، وجد في تركيا قاعدة عسكرية استراتيجية متقدمة، وحجماً بشرياً يُعتد به في مواجهة أخطار الانتشار الشيوعي، الذي كان على مدى عقود تلت الحرب العالمية الأولى فزّاعته الأكبر. ولكن تركيا كانت تطمح باستمرار إلى مكانة تتجاوز دورها العسكرياتي، وتدرك أن إمكانياتها، وموقعها، وحجمها، وخبرة أهلها، كلها مقوّمات تؤهلها لإنجاز نهضة اقتصادية تكون نموذجاً للشرق الإسلامي، نهضة تفتح لها الأبواب بيسر وسهولة، ومن دون الحاجة إلى تحمّل تكاليف المشاريع التوسعية التصادمية، كما هو الحال بالنسبة إلى المشروع الإيراني على سبيل المثال.

 

وقد بدأ هذا التوجه مع الرئيس التركي الراحل تورغوت أوزال منذ أواسط الثمانينات حتى وفاته في 1993. وتمثّل لاحقاً في تجربة حزب العدالة والتنمية التي بدأت عام 2002. وقد حققت هذه التجربة في وقت قياسي من الإنجازات التي اعتبرت في منظور المواطن التركي، وحتى بالنسبة إلى المتابعين للشأن التركي، ضرباً من المعجزة.

 

ومنذ البداية كان من الواضح أن حزب العدالة يسعى لإثبات استقلالية قراره، ويحاول الخروج من رداء التابع المنقاد. ولعل هذا ما يفسّر قراره بعدم الموافقة على فتح قاعدة انجرليك والحدود البرية أمام القوات الأميركية في حرب إسقاط صدام حسين في 2003.

 

وفي الوقت ذاته، كانت هناك جملة من التحديات الداخلية بالنسبة إلى هذا الحزب تستوجب اتخاذ موقف منها، وذلك للقطع مع الصورة النمطية التي كانت عليها مواقف الحكومات التركية السابقة على صعيد علاقاتها مع المؤسسة العسكرية، أو مقاربتها للمسألة الكردية في البلاد. وبعد وصول الثورة الشعبية إلى سورية التي تعتبرها تركيا حديقتها الخلفية، برزت تحديات جديدة.

 

كانت تركيا تدرك منذ البداية أن سورية دولة مفتاحية، وهي نقطة استناد مهمة في الاستراتيجيات الروسية الشرق أوسطية. أما النظام الإيراني، فقد اتخذ من سورية القاعدة الأساس لتمرير مشروعه التوسعي التعبوي في المنطقة. وتركيا كانت، وما زالت، ترتبط مع الدولتين بأوسع العلاقات الاقتصادية، بخاصة في النفط والغاز، والتبادل التجاري، والقطاع السياحي. ولعلها من أجل ذلك حاولت في المرحلة الأولى من الثورة السورية إقناع النظام بضرورة إجراء إصلاحات حقيقية، كان من شأنها المصادرة على الكثير من النتائج الكارثية اللاحقة. ولكن النظام المقتنع بأن أية عملية إصلاح فعلية هي بداية النهاية بالنسبة إليه، رفض الأخذ بالنصائح التركية، كما رفض الأخذ بالنصائح العربية، وكان ما كان.

 

وقد اعتقد الجميع، بخاصة بعد تشكيل مجموعة أصدقاء الشعب السوري، بأن الأمور ستحسم سريعاً في سورية، وستستعيد المنطقة توازنها الإقليمي وفق المعطيات الجديدة، الأمر الذي لم يحدث. ومع الوقت تعقدت الوضعية أكثر، واختلفت الأولويات. ودخلت روسيا على الخط مباشرة، بعد أن تيقّنت من عدم الجدية الأميركية، ورفعت شعار مكافحة الإرهاب للتغطية على دعمها للنظام. وجاءت حادثة إسقاط الطائرة الروسية، وهي حادثة كانت تحوم حولها التساؤلات منذ البداية، لتشعل أزمة غير عادية بين تركيا وروسيا، أزمة تجلّى عمقها عبر تمددها إلى العلاقات الاقتصادية بين البلدين، الأمر الذي أقلق الجانبين، وألزمهما بالبحث سريعاً عن المخرج. وخطت تركيا، انسجاماً مع التوجه ذاته، خطوة باتجاه إسرائيل أيضا، بهدف تحصين الموقف السياسي بعد حالات الجفاء والتردد التي شهدتها العلاقات مع الولايات المتحدة الأميركية تحديداً، ومع أوروبا على وجه العموم.

 

غير أن المحاولة الانقلابية الفاشلة الأخيرة، أعادت خلط الأوراق، وارتفعت حدة الفتور بين تركيا وحلفائها الغربيين، وكان التوقع هو أن العلاقات ستصبح أكثر حرارة مع الروس لألف سبب وسبب، بعيداً عن الالتزامات الأيديولوجية وكوابحها.

 

لقاء القمة الذي كان بين الرئيسين الروسي والتركي ما زال حديث العهد، والذي يستوقف هو أن كل طرف يحاول أن يستثمر هذا اللقاء، وما سيترتب عليه، في حساباته مع الغرب. روسيا لديها الرغبة في انتزاع تنازلات غربية لمصلحة مشاريعها في أوروبا الشرقية، وآسيا الوسطى، وحتى في الشرق الأوسط. وتركيا تريد أن تبين من خلال هذا اللقاء أنها ما زالت تمتلك بدائل قوية، وأن التمنّع الأوروبي في مواجهتها لم يعد سراً مكتوماً، كما أن البرودة الأميركية التي تلمسها تركيا لمس اليقين العياني عند العديد من المنعطفات الحرجة، باتت تثير ألف استفهام واستفهام.

 

هل سنشهد تفارقاً بين تركيا وذهنيتها المبرمجة غربياً، وسنكون أمام فصل أشبه بذاك الذي كتبه هنري كيسنجر حينما حقق اختراقاً مع الصين في بداية السبعينات؟ أم أن الموضوع لن يخرج عن نطاق التذكير ودق جرس الإنذار لتعيد الإدارة الأميركية ترتيب أولوياتها، وتعمل على مراجعة الإشكاليات الاستراتيجية التي أوجدتها إدارة أوباما، وهي إشكالاليات تستوجب المزيد من التحليل والفهم، ليصل المرء إلى قناعة بخصوص طبيعتها الفعلية.

 

ما يهمنا هنا قبل كل شيء هو أن يساهم التفاهم الروسي – التركي في إيجاد حل واقعي ممكن، يرتقي إلى مستوى تضحيات وتطلعات السوريين. ومن دون أن ننسى أن المسؤولية الأولى تقع على عاتق السوريين أنفسهم، فالمصير يخصهم، ومن واجبهم التقدّم بمبادرة متوازنة تراعي هواجس الجميع، علّها تُعتمد أساساً لحل قادم، وسط كل ما يحصل من تطورات دراماتيكية ميدانية، وأخرى سياسية، إقليمية ودولية.

 

 

 

 

 

 

 

Comments (0)
Add Comment