عبدالباسط سيدا
وضع الرئيس مسعود البارزاني مؤخراً مواطني كردستان العراق بكل انتماءاتهم القومية والدينية والمذهبية أمام مهمة ضرورة تحمّل مسؤولية الموقف، والاختيار بين السيادة أو التبعية؛ وذلك في رسالة مفتوحة وجهها إليهم، أتت لتكون توصيفاً لجملة التراكمات السلبية بين بغداد وأربيل.
فالسياسة التي تعتمدها الحكومة الاتحادية في بغداد تجاه إقليم كردستان هي سياسة أساسها الهيمنة والإبعاد وخلق المشكلات على كل المستويات، خاصة الإقتصادية منها، إلى جانب محاولات شق وحدة الصف الكردي عبر السعي إلى استمالة بعض الأطراف من خلال وعود وإيحاءات وتدخلات إيرانية. فالمالكي الذي سلّم الموصل بفساده واهماله، وربما بتورّطه، إلى داعش، يقدّم نفسه اليوم إلى بعض الكرد بوصفه البديل المخلّص، وهو يتستّر خلف عباءة أتباعه وحلفائه في الحشد الشعبي، هذا الحشد الذي سيأتي على ما تبقى من وحدة النسيج المجتمع العربي العراقي لصالح توجهات مذهبية مقيتة، لا مصلحة للعراقيين بكل مذاهبهم فيها.
أما وزير الخارجية ابراهيم الجعفري، الذي لم يُسجّل له اي انجاز يستوقف أو يُشاد به حينما كان رئيساً للوزراء، فهو يصرّ على إبعاد ممثلي إقليم كردستان، ومنعهم من المشاركة في الوفد العراقي إلى مؤتمر دول التحالف المناهض لداعش الذي انعقد مؤخراً في واشنطن. وقد افلح في ذلك بعد أن وافق الجانب الأمريكي على مسعاه، وذلك استناداً إلى ما ورد في رسالة البارزاني المشار إليها.
هذا في حين أن الجميع يشيد بالجهود الكبيرة، والتضحيات الجسمية، التي بذلها البيشمركه في مواجهتهم للإرهاب الداعشي الذي غيّر مساره بتوجيه من رعاته وداعميه، وهجم على المسيحيين واليزيديين والكرد ومناطق السنة في الأنبار، بعد أن كان قد ادّعى بأنه في طريقه إلى بغداد.
واليوم بات داعش شمّاعة لإرتكاب كل الموبقات، والتستّر على الفساد الفلكي الذي تعيشه الطبقة السياسة العراقية بغالبية أجنحتها وتوجهاتها. كما أصبحت حجة مواجهة داعش المدخل في اسباغ المشروعية على كل التدخلات اللامشروعة الإيرانية في الشؤون العراقية الكبيرة منها والصغيرة.
المشروع الوطني العراقي الذي يجمع بين العراقيين من جميع المكوّنات ضمن إطار عراق اتحادي مدني ديمقراطي تعددي، على قاعدة احترام الخصوصيات والحقوق، يظل هو الإطار الأمثل لحل مشكلات العراق، وطمأنة سائر مكوّناته. ولكن هكذا مشروع لن يكون بالكرد وحدهم، أو بالسنة وحدهم؛ بل لا بد من أن يكون بجميع العراقيين، خاصة الشيعة منهم باعتبارهم يمثّلون الأغلبية. أما أن يكون التوجه هو الهيمنة، والعمل من أجل إزاحة الجميع بذارئع متباينة، فهذا فحواه أن الولاءات ما قبل الوطنية المتناغمة مع مشاريع إقليمية هي الطاغية. وفي مثل هذه الحالة لن يكون أمام الكرد وغيرهم سوى التفكير في البدائل، وذلك عوضاً عن المراهنة على رابطة وطنية هشة لا يوليها شركاء الوطن أي اعتبار. وهكذا نعود ثانية إلى الاستبداد الشرقي الذي يتعامل مع الوطن وكأنه مزرعته، ومع أبناء الوطن وكأنهم مجرد رعايا أو عبيد مهمتهم التسبيح بحمد وبركات الحاكم المؤلّه.
هناك مشروع قرار أمام برلمان إقليم كردستان خاص بإجرء استفتاء لتحديد مصير علاقة الإقليم مع بغداد، وهو لا يمثل هرطقة أوبدعة، بل يُعد حقاً مشروعاً تقرّه كل المواثيق والمعاهدات الدولية. حق مارسته وتمارسه الشعوب في مشارق الأرض ومغاربها. وما يستشف من رسالة الرئيس البارزاني أنه يلمّح إلى إمكانية اتخاذ قرار لتنفيذ الاستفتاء.
لقد حاول الكرد مراراً وتكراراً تذليل كل العقبات مع بغداد، وعملوا من أجل التفاهم على قضايا الميزانية والمناطق المتنازع عليها، وتوزيع السلطات والصلاحيات. ولكن بغداد المغلوبة على أمرها لم تعط أي وزن لاعتبارات المحافظة على وحدة العراق، ولم تعمل من أجل إزالة الهواجس وتعزيز الثقة، بل عملت باستمرار ، التزاماً منها بإيماءات وأوامر خارجية، لفرض الهمينة، والتحكّم كلما تسنّى لها ذلك.
المناخات الإقليمية معقدة من دون شك. والمسألة الكردية بصورة عامة هي مسألة إقليمية تخص دولاً عديدة في المنطقة، وهي تعد ركناً أساسياً بالنسبة إلى معادلات التوازن في المنطقة وتفاعلاتها؛ ولكنها في الحالة العراقية تمتلك خصوصية تميّزها عن الحالات الأخرى من جهة تاريخها وجغرافيتها، والتضحيات التي بُذلت من أجل إيجاد حل عادل لها؛ هذا بالإضافة إلى دورها في ظل وضعية الاستقطابات الجهوية والمذهبية، ومحاولات النظام الإيراني فرض هيمنة شمولية على كل المناطق العراقية. ومن هنا يُعتقد أن السياسات والحسابات الإقليمية لن تكون عائقاً أمام اجراء استفتاء عام في الإقليم، تحدد نتيجته طبيعة العلاقة مع بغداد مستقبلاً.
هل سينجح البارزاني في مسعاه بخصوص اجراء الاستفتاء، وهو مسعى يجسّد الحلم الكردي القديم – الجديد بخصوص الاستقلال باعتباره يضمن السيادة، والقدرة على اتخاذ القرارات التي تمس المصير الكردي من دون انتظار منّة أو مجاملة محسوبة من الجعفري أو المالكي أو غيرهما؟
الاتجاه العام في كردستان العراق يميل نحو هذا الإتجاه، بعد أن قطع الناس هناك الأمل في إمكانية حدوث تغيير إيجابي حقيقي في بغداد لصالح المشروع الوطني العراقي.
وربما لن يقتصر هذا التوجه على مواطني إقليم كردستان وحدهم، بل سيشمل المواطنين في المناطق السنية أيضا في الموصل والأنبار وغيرهما من المناطق، هؤلاء الذين عانوا الأمرين من تجاوزات ميليشيات الحشد الشعبي والفصائل المذهبية التوجه الأخرى، التي تتعامل مع أبناء الوطن المفروض بعقلية ثأرية مثقلة بالحقد والكراهية تتمرّد على أي توصيف موضوعي؛ وهذا ما يفسر كل هذا الخوف مما قد يحدث بعد معركة الموصل المرتقبة، فإصرار الحشد الشعبي على المشاركة، واقدام رئيس الحكومة العراقية على شرعنة هذا التدخل يدفع بالناس نحو الخشية من المجهول القادم.
لقد أخفقت الايديولوجية البعثية القومية في ترسيخ اسس الوطنية العراقية في عقول العراقيين وضمائرهم، الذين تبيّن لهم بالدليل الملموس أن الشعارات القوموية الكبرى لم تكن سوى ستار دخاني تضليلي، أسفرت عن الإجهاز على الداخل الوطني من قبل زمرة تحكّمت بمصائر وأرزاق وأعناق الناس.
كما أخفق المشروع المذهبي الطاثفي في توحيد العراقيين، بل فتّتهم، وأرهقهم بالأهوال والمجازر، والفساد غير المسبوق الذي التحف غالباً برداء المرجعيات، وذلك لإسباغ هالة من التقديس على مدنّس عصيّ على أي تطهير.
يقول المأثور العربي: أخر الدواء هو الكي. والفقه من جهته يقرّ بمشروعية الطلاق رغم كونه أبغض الحلال إلى الله. فإذا كان الإنفصال، أو بتعبير أكثر إيجابية الإستقلال، مدخلاً لتعزيز الاستقرار، وتحسين أوضاع الناس المعيشية في جزء من الوطن المركّب؛ وكان القطع مع الشعارات الهلامية التي تؤكد المعطيات أنها قد باتت راهناً مظهراً من مظاهر رغبة حالمة، رغبة تفتقر إلى امكانيات التحقق بكل أسف. وإذا كان البديل هو التوتّر والتراجع، وربما الاقتتال والمجازر؛ فما العيب، واين هي المشكلة إذا ما تم الإقرار بالحق المشروع؟