جاد الكريم الجباعي
لا نصادر على المطلوب حين نصف المناخ الذي يعيش فيه السوريون بأنه مناخ عنف مادي ورمزي، تجاوزا جميع الحدود القانونية والأخلاقية، فتحولا إلى إرهاب تشكل في سياق أقليمي – عالمي. العنف المنفلت من كل عقل وعقال مصحوب بانحطاط أخلاقي، غير مسبوق في تاريخنا الحديث، والإرهاب، الذي يصعب تفسيره بغير العدمية، والنكوص إلى الهمجية والتوحش، يطرحان أسئلة حارقة عن المصادر التي يتغذيان منها والعوامل التي تؤججهما، ولا تُستنفد أسبابهما في الاستبداد السياسي وإخفاق التنمية، وهما التفسيران الأكثر رواجًا، من سائر التفسيرات، التي تعيِّن مواقع من يفسرون ومنظوراتهم، إلى جانب “إخفاق الحداثة” وتأثير الرأسمالية المتوحشة في صيغتها الليبرالية الجديدة، وتأثير العولمة… إلخ، بل يتعديان ذلك إلى الهيكل الأساسي للمجتمع، وآليات تشكله وإعاة إنتاجه. ولعل السؤال الذي تطرحه هذه التفسيرات: لماذا تؤدي هذه الأسباب نفسها إلى نتائج مختلفة في سورية عنها في بلدان أخرى، أوضاعها شبيهة، إلى هذا الحد أو ذاك، بما كانت عليه أوضاع سورية قبل عام 2011؟
وإذ لا يجوز رد الظواهر المختلفة إلى سبب واحد، كما هو ديدن التفكير الديني، أو إلى عدة أسباب ظاهرة أو مفترضة، دون غيرها من الأسباب الخافية والمتفاوتة في تأثيرها، وفقًا لتغير الشروط، فإن مقاربتنا للتعصب، ليست من قبيل البحث عن سبب الأسباب وعلة العلل، بل مدخلًا لتلمّس الفروق الدقيقة بين دلالاته وتجلياته، في حقل معرفي وثقافي وأخلاقي بالغ التعقيد، وحافل بالمراوغات الأيديولوجية. ولكن الأمر يتوقف، في كل مرة، وإزاء كل حالة، على دقة الوصف، قبل براعة التحليل والتأويل، فهل يتفق المحللون والمتأولون على وصف ما يجري في سورية، منذ عام 2011 حتى اليوم، لوضع اليد على مظاهر التعصب وآليات إنتاج العنف، وشروط تحول العنف إلى إرهاب؟ تصعب الإجابة عن هذا السؤال في ظل شروط غير مواتية للحوار والنقاش العام. ولعل التعصب المستشري أحد هذه الشروط؛ وذلكم مما يملي ضرورة البحث ويمنحه أهميته.
التعصب fanaticism حقيقة بشرية؛ تتبدى بأشكال مختلفة ودرجات مختلفة، بعضها يهدد تماسك الجسم الاجتماعي ويزعزع وحدته، كما هي حالنا اليوم، بقدر ما يهدد تماسك شخصية الفرد، ذكرًا وأنثى، ويزعزع وحدتها. فلا تسوغ الإشاحة عن هذه الحقيقة والانصراف عن فهمها ومفهمتها وتحليلها ونقدها، بوصفها شكلًا من أشكال الوعي الذاتي، وشكلًا من أشكال التفكير والإدراك والتمثل والتقدير والعمل، التي تعيِّن شخصية الفرد وهويته ومكانته في الجماعة والمجتمع والدولة، وتعين، من ثم، شخصية الجماعة وهويتها، وشخصية المجتمع أو شخصية الأمة وهويتها، إذ لا تتجسد الأمة الحديثة عيانيًا إلا في المجتمع المدني. والتعصب، من ثم، ظاهرة عالمية، وتاريخية، تختلف تجلياتها، في الدرجة، من مجتمع إلى آخر باختلاف الشروط الاجتماعية – الاقتصادية والثقافية والسياسية والأخلاقية، التي هي ذاتها أبعاد الظاهرة؛ إذ تمكن ملاحظة التعصب العرقي والاثني والقومي والعشائري أو القبلي والجهوي والديني والمذهبي والأيديولوجي والحزبي والطقوسي… و”العلمي” أو العلموي أيضًا، في كل زمان ومكان؛ لذلك نحاول أن ننزع الطابع القيمي المطلق والسلبي عن مفهوم التعصب، لكي تنجلي حقيقيته التاريخية، في تناوب السلم والحرب والتعايش والنزاع، وإلا يغدو التعصب نوعًا من القدر.
التعصب ليس مرادفًا للتطرف، إذ تمكن ملاحظة التطرف أو الاعتدال في حقل التعصب ذاته، فلا يخلو أحد من تعصب، بمن في ذلك الفلاسفة والشعراء والفنانون؛ ما يوجب على الإنسان العاقل والأخلاقي مساءلة الذات ومراجعة البداهات واليقينيات على واقع المجتمع وقيم العصر. حقل التعصب فسيح ومتموج، يبدأ بالاقتناع فالتلقين والإقناع فالحماسة فالدعوة، أو التبشير، فالتطرف فالجهاد، أو النضال، فالعنف، فالإرهاب. وهذا مما يربط التعصب بالطوباويات، التي تتحول، بعد انقضاء زمنها، إلى أيديولوجيات، ثم إلى فولكلور، تكتسب معه الطقوس والعلامات والرموز والأساطير طابعًا شعبيًا. ولعل الأيديولوجيات على اختلافها وتخالفها، هي الأنساق التعصبية، التي تحمل جرثومة التطرف والعنف وإمكانات تحول الأخير إلى إرهاب؛ وبهذا يتجاوز التعصب حدود الحاجة (كالحاجة إلى الانتماء أو الحاجة إلى تأسيس الذات وتأثيثها، والحاجة إلى يقين) إلى مستوى الرغبة، التي تؤججه وإرادة السلطة والسيطرة، التي تستثمره.
ولعلنا لا نجد هذا التحول الخطِر من حقل الحاجة إلى حقل الرغبة والهوى و”إرادة القوة”، إلا مشفوعًا بالسلطة، بما هي علاقات قوة أو علاقات بين قوى متنافسة، داخل الجماعة أو المجتمع الصغير (Community)، وبين الجماعات المختلفة، في المجتمع الكلي (Society)، في الوقت نفسه. فلا ينفك التعصب عن آليات تَولُّد السلطة والمبادئ التي تؤسسها، ابتداء من جيناتها الأولية أو الميكروية. فإذا ما حذفنا عنصر السلطة من التعصب والعصبية، على سبيل التمرين الذهني، لا يتبقى منهما سوى الاقتناع والحماسة والتلقين والإقناع الذي لا يبلغ حدود الدعوة مقرونين بالحاجة إلى انتماء.
لعل “الدعوة” هي الحد الذي يتحول عنده التعصب إلى تطرف، و”الجهاد” أو “النضال” هو الحد الذي يتحول عنده التطرف إلى عنف مادي ورمزي، ويمكن أن يتحول في شروط معينة إلى إرهاب. تلكم هي الأطروحة الرئيسة للنقاش.
ولما كان التعصب لا يقوم بلا “آخر” يُتَعَصَّب عليه (شخص آخر، جماعة أخرى، عرق آخر -اثنية أخرى– قومية أخرى، جنس آخر، مذهب آخر..)، فإنه يظل مفتوحًا على التعايش مع هذا الآخر المختلف، ومفتوحًا على قبول الاختلاف، ما لم يتحول، بكيمياء السلطة وإرادة القوة والسيطرة، إلى تطرف ملازم للدعوة، حينئذ يتحول الآخر المختلف إلى عدو، (عدو الله وعدو الدين وعدو الأمة أو عدو الاشتراكية والطبقة العاملة..) يجب كسر شوكته وإخضاعه إن لم يمكن القضاء عليه، ويغدو هذا كله من قبيل “الواجب الأخلاقي”: الوطني أو القومي أو الديني أو المذهبي أو الطبقي.
يبدأ انزلاق المجتمع إلى مهاوي العنف، الرمزي و/ أو المادي، عندما يختار الزعيم بطانته، على صعيد الجماعة، (وعلى صعيد الحزب الذي يختزل في لجنته المركزية ثم في مكتبه السياسي ثم في أمينه العام)، وعندما يختار الحاكم شعبه، كما تفعل الآلهة، على صعيد المجتمع، وينظر إلى بقية رعاياه ويتعامل معهم على أنهم الأعداء الموضوعيون، الذين يتربصون به. فيتجاوز العنف، الذي تمارسه بطانته وأدواته حدود القانون، حتى يتلاشى القانون ويضمحل، فتحل الامتيازات محل الحقوق، وتحل الولاءات محل القانون. وليس تلاشي القانون واضمحلاله سوى تلاشي الدولة واضمحلالها والدخول في حال من الفوضى، على كل صعيد، فيتآكل ما حققه المجتمع من تمدن. الهمجية هي نتيجة هذا التآكل وذروته.
ثمة وجاهة في قسمة المتعصبين قسمين: متعصبين أصليين، يحوزون الثروة والسلطة ومصادر القوة، ويعملون كل ما في وسعهم للدفاع عنها والحفاظ عليها، ومتعصبين تابعين يتماهون بهؤلاء ويستبطنون تعصبهم. ولا يخلو أن يُحمِّل المتعصبون الأصليون مسؤولية نتائج تعصبهم المغلف بألوان عجيبة لتابعيهم. وهؤلاء التابعون الذي يقبلون أن يُعمل بهم أي شيء، يصيرون قابلين لأن يفعلوا أي شيء، بلا أي وازع (الشبيحة مثال على ذلك). وذلكم هو الأساس العميق للانحطاط الأخلاقي؛ فليس من المنطقي فصل الانحطاط الأخلاقي، الذي يتجلى في وجود أشخاص فوق القانون، عن انحطاط الدولة وتلاشي القانون؛ لأن الدولة هي “الحياة الأخلاقية للشعب”، بحسب تعبير كارل ماركس.