روسيا بعين تجاربنا

دعوت، قبل أسابيع، إلى رؤية روسيا بأعين سورية، وليس بأعين أميركية، وقلت، إن الفارق بين الحالين عظيم، وتترتب عليه نتائج مهمة. واليوم، وروسيا تتقدم، في الوقت الأميركي المستقطع، كي تأخذنا إلى النظام الأسدي، من الضروري إلقاء نظرة على مواقفها خلال السنوات الأربعين الماضية التي أعقبت وصول أسرة الأسد إلى السلطة في سورية، وخصوصاً خلال السنوات الأربع الأخيرة.

بداية، من الضروري التأكيد على أن علاقة الأسرة الأسدية بروسيا بقيت مميزة طوال فترة حكمها، لأن أسلوبها في الحكم التسلطي والعنيف يشبه الطريقة القيصرية الروسية في ممارسة الحكم واستعمال السلطة. وقد روى أحد العارفين بأسرار العلاقات الروسية /الأسدية قصة تقول، إن وزير الدفاع السوفييتي الأسبق، جريتشكو، سأل حافظ الأسد خلال أزمة عامي 1980-1982، إن كان الجيش وأجهزة المخابرات معه، حين رد الأسد بالإيجاب، وأكد أن عدد مثيري الشغب قليل، قال الوزير الروسي: “لا تقلق بخصوص الشعب، فهو ليس مهماً”. لم يكن النظام بحاجة إلى من يعلمه معاداة شعبه، بل كان أستاذاً مبدعاً في كل ما له علاقة باضطهاده وإذلاله وقتله ونهبه. هذا الإبداع حببه إلى الروس، وجعلهم يرون فيه ضامن وجودهم ونفوذهم في المنطقة العربية، ويتعهدون بحمايته من أي انقلاب داخلي، أما الهزائم الخارجية فلم يتعهدوا بحمايته منها، لأن حساباتها مختلفة، وقد يكون بعضها أكبر من قدراتهم.

هذا ما أعلمني به ضابط أمن كبير في سفارة الاتحاد السوفييتي في دمشق، في لقاء جمعني به عام 1985 بطلب منه، أخبرني بوجود قوات خاصة سوفييتية في أقرب نقطة من جنوب بلاده إلى سورية، مهمتها الإسراع إلى نجدة الأسد، في حال تعرض لانقلاب أو قامت ضده ثورة. وللعلم، كان الخبراء السوفييت في الجيش الأسدي يعرفون، حق المعرفة، أن تدريبات وحداته القريبة من دمشق كانت منصبة على قمع انقلاب أو نشوب ثورة، وأن هذه الوحدات لم تشغل بالها إطلاقا بتحرير الجولان، أو صد هجوم إسرائيلي على دمشق، ومن المعروف أن الأسد الأب نجح، بعد وصوله إلى الحكم، في إنهاء حال من التوتر مع إسرائيل، كان “البعث” قد

بدأها عام 1965، ليس حباً بفلسطين، وإنما لكسب صراعه مع عبد الناصر على زعامة العالم العربي. وقد قدم الأسد عام 1974، عام فصل القوات والتخلي الرسمي عن الجولان، ضمانات طويلة الأجل “للعدو”، قابلها بضمانات أميركية لوجوده، وضعته خارج دوائر الخطر. ومن أين قد يأتيه الخطر، إن كان لديه دعم دولي أميركي/ روسي، وإيراني/إسرائيلي إقليمي، وكان يحكم قبضته القمعية الخانقة على عنق كل سورية وسوري؟

حين نشبت الثورة، قام الروس بكل ما يلزم لقتل السوريين، وتبنوا قبل بشار الأسد أطروحة العصابات المسلحة التي تروع الشعب وتقتل أبرياءه، ويجب على جيش النظام حمايته منها بالقوة، وإن قتل بالخطأ بعض الأبرياء منه. على الجانب الآخر، لم يفوت أي مسؤول روسي أية فرصة للتمسك ببقاء الأسد في السلطة. ويؤكد آخر ما قيل في هذا الصدد أنهم متمسكون به اليوم، أيضاً، كرئيس، وإلا ما معنى أن يتنكروا لما قبلوه في وثيقة “جنيف 1” حول تشكيل “هيئة حاكمة انتقالية بصلاحيات كاملة” برضا المعارضة والموالاة، تتولى نقل سورية إلى الديمقراطية؟ وما معنى أن يصرّوا في لقاءاتهم الأخيرة مع المعارضين على بقائه رئيساً ينفرد بالصلاحيات العسكرية والأمنية التي مكّنته، خلال أعوام الثورة، من قتل وتشريد وتهجير واعتقال وتعذيب وإخفاء ملايين السوريين؟ بالمناسبة، والشيء بالشيء يذكر، لم يقل أي مسؤول روسي، حتى اليوم، كلمة تعاطف واحدة مع الشعب السوري، ولم يستنكر أي مسؤول حتى تلك الجرائم التي أقر النظام نفسه بأن قواته هي التي ارتكبتها، بل كررت وزارة الخارجية الروسية، مرات عديدة، أن ما يجري في سورية قضية أمن قومي روسي، بمعنى أن جيش الأسد يخوض الحرب دفاعاً عن روسيا، وليس دفاعاً عن نظامه فقط.

هل تريد روسيا، اليوم، استخدام الورقة السورية، لممارسة ضغط على واشنطن، يخفف عنها ضغوط أوكرانيا وحلف الأطلسي والنفط، أم إنها تريد حقاً حلاً سياسيّاً بأيد سورية؟ إذا كان هذا ما تريده، لماذا ترفض مطالب الشعب السوري، وخصوصاً منها، الحرية، وإسقاط النظام أو تغييره أو تبديله أو تعديله؟ وهل يقتصر ما تريده على استدراج المعارضة إلى حوار يمعن في شق صفوفها، المنقسمة أصلاً، يمهد لضم أطراف منها إلى النظام، فيكون انضواؤه فيه، وما سيتمخض عنه من ترتيبات سياسية وعسكرية، هما الحل المنشود، بينما يقصى “الائتلاف” ويزاح جانباً، وتتحول معركة السوريين في سبيل الحرية إلى قتال بين التنظيمات الإرهابية و”النظام الجديد”، الساعي إلى إعادة البلاد إلى حياتها الطبيعية، والذي تغيرت علاقات العالم معه ونظرته إليه؟

من الذي سيستطيع، في حال نجحت لعبة الروس، على سذاجتها، في إنقاذ المعارضة من صراعاتها التي سيستطيع كل من هب ودب، دوليّاً وإقليميّاً، جعل إخمادها مساويّاً للقضاء على بقايا ثورة، لطالما تلاعبت بها تناقضات الدول والإقليم، وحان وقت التخلص منها، لأنه لم يعد لديها ما تفعله غير تعكير مزاج نظام احتوى القسم الرئيس ممّا يسميه “المعارضة الوطنية”، وقوض “المعارضة العميلة”، ونقل البلاد إلى “ديمقراطية ممانعة” من الطراز الإيراني/ الروسي، ستغطي إبادة من بقي حيّاً من شعب المندسين السوري!.

ميشيل كيلو

Comments (0)
Add Comment