تقاسم خريطة سورية يرسّخ التقسيم خياراً وحيداً؟

جورج سمعان

يبدو صعباً أن تبرم روسيا والولايات المتحدة اتفاقاً استراتيجياً في سورية. أقصى ما يمكن أن تتوصلا إليه تفاهمات على وقف للنار هنا وهدنة هناك. أو رسم حدود العمليات الجوية لكل طرف. وسبل ضرب جبهة «فتح الشام» (النصرة). والأسباب كثيرة ذاتية وموضوعية. فالثقة مفقودة بين الطرفين على رغم رغبتهما في التعاون. ففي حين تتطلع موسكو إلى تفاهم واسع يشمل جملة من القضايا والملفات الشائكة، تبدأ بأوكرانيا ولا تنتهي ببلاد الشام، ترغب واشنطن في تعاون لا يتجاوز سورية. خصوصاً أنها باتت أكثر ارتياحاً إلى توازن القوى على الأرض. فهي حاضرة عبر دعمها «قوات سورية الديموقراطية» وغالبيتها الكردية. كما أن تدخل تركيا التي هرولت إلى مراضاتها بعدما أشاحت بوجهها نحو الكرملين، يضيف قوة إلى هذا الحضور.

 

حتى وإن توصل الأميركيون والروس إلى اتفاق استراتيجي، فإن العبرة ستكون بالتنفيذ. وهذا دونه عقبات كبرى. صحيح أن اللاعبين الخارجيين رسموا حدود «مناطقهم» وتدخلهم، وحجزوا لهم مقاعد على طاولة أي مفاوضات لرسم صورة بلاد المشرق العربي، إلا أن مشاريعهم ومصالحهم تتضارب ولا يقيمون اعتباراً لمصالح سورية وإن بالغوا في إبداء الحرص على وحدتها! حتى داخل صفوف الحلفاء تتعارض الأجندات. فاللاعبون الإقليميون لهم أجندات مختلفة تتجاوز قدرة الكبار على فرض الحلول والتسويات. والحروب المندلعة بالوكالة، أو مباشرة، في المسرح السوري، لا تشي مثلاً بتفاهم استراتيجي بين واشنطن وأنقرة بقدر ما تزخر باختلافات ومواجهات على الأرض. أما الحلفاء التقليديون للولايات المتحدة في الجانب العربي فلا شيء يقلقهم أكثر من إيران وسياسة التدخل التي تعتمدها في الإقليم. ويشككون في سياسة إدارة الرئيس باراك أوباما. ومثلهم أوروبا التي لا تخفي انزعاجها من استئثار البيت الأبيض والكرملين بالملف السوري. وكذلك الأمر على جبهة دمشق وحليفيها الروسي والإيراني. فلكل من هذه الأطراف الثلاثة هدفه الخاص وأجندته المختلفة. وأبعد من ذلك أن المتصارعين على الأرض لا يثقون بوعود الولايات المتحدة أو روسيا أو بقدرتهما على الوفاء. وإذا صح أن الكرملين يمسك وحده بالقرار فإن البيت الأبيض يجد نفسه حائراً وسط وجهات نظر مختلفة بين الخارجية والبنتاغون والكونغرس، وجل ما تلتقي عليه هذه هو محاربة «داعش» فحسب.

 

بات توزيع المسؤوليات عن المناطق في سورية واضحاً لا لبس فيه. تقاسم المتدخلون الجغرافيا والديموغرافيا. لذلك تستحيل رؤية حل في الأفق القريب ما لم تتلاق هذه الأطراف على رؤية واحدة وأهداف واضحة. بالطبع لن يأتي الحل على هوى الأطراف المحلية المتصارعة. فمنذ أن قرر هذا الطرف أو ذاك الاستقواء بقوة خارجية قريبة أو بعيدة، بات منطقياً أن تراعي أي تسوية مصلحة هذه القوى الخارجية. فعندما استنجد النظام بإيران والميليشيات الحليفة رهن قراره تلقائياً برغبات طهران وسياساتها، حتى باتت لبعض الميليشيات مناطق نفوذ تنفرد بها عن دمشق نفسها، من داريا إلى القلمون والقصير… وكذلك دعوة روسيا إلى التدخل تعني منحها مساحة كبيرة في المجال السياسي وباتت اليوم تنفرد بعقد تفاهمات مع فصائل مقاتلة هنا وهناك بصرف النظر عن موقف النظام ورغباته. كما أن المعارضة التي هللت أخيراً لتدخل تركيا الميداني من بوابة جرابلس، ستجد نفسها مرغمة على مراعاة المواقف السياسية لأنقرة وسماع كلمتها. فالدعم العسكري الذي قدمته وتقدمه هذه إلى «الجيش الحر» وشركائه لن يكون بلا ثمن، حتى وإن توجهت حكومة بن علي يلدريم إلى تسريع وتيرة تطبيع العلاقات مع دمشق. لن يكون أمام «الهيئة العليا للمفاوضات» رفع صوت الاعتراض عالياً، ما دامت الآلة العسكرية التركية على الأرض توفر للفصائل المقاتلة فرصة تصحيح ميزان القوى في المواجهة مع النظام وحلفائه.

 

قد لا تكون هذه المشكلة الوحيدة التي تواجه المعارضة اليوم بجناحيها السياسي والعسكري. ذلك أن أي تفاهم بين روسيا والولايات المتحدة على لائحة الفصائل الإرهابية سيؤدي إلى مزيد من إضعاف لجبهة خصوم النظام، ولا سيما المعتدلين منهم. فالكرملين يكاد يلتقي مع دمشق في اعتبار معظم الفصائل إرهابية. في حين ترغب واشنطن في تحييد بعضها، خصوصاً تلك التي توفر لها دعماً وتدريباً. كما أن سعي القوتين الكبريين إلى تفاهم على سبل إبعاد المعتدلين عن «جبهة فتح الشام» («النصرة») قد يعقد مجريات الحرب على «تنظيم الدولة»، ويعيد خلط الأوراق في صفوف المقاتلين على الأرض. «أحرار الشام» مثلاً التي تضعها موسكو في سلة واحدة مع العناصر الجهادية قد لا تستسيغ الابتعاد عن «النصرة»، فكيف بقتالها؟ وكانت دافعت عنها في مواجهتها مع «داعش». هي تعتقد بأن الموسى ستصل إليها عاجلاً أم آجلاً، ولا تريد أن تكون الثور الأبيض بعد أكل الثور الأسود. كما أن «الائتلاف الوطني» الذي يقطف ثمار مشاركة الجبهة ميدانياً في قتال قوات النظام سيجد نفسه بعد أي اتفاق أميركي – روسي أمام خيار الابتعاد عنها. لن يكون بمقدوره الإفادة من العائد السياسي الذي توفره مشاركتها الميدانية. علماً أن الجبهة التي أعلنت قطع صلاتها بتنظيم «القاعدة» لا تزال تعيش تداعيات هذا القرار. فهناك صراع بين أجنحتها. بين من يريد التماهي مع «أحرار الشام» والفصائل التي انضوت تحت عباءة «الهيئة العليا للمفاوضات» وأولئك المتشددين الراغبين في إعادة ربط ما انقطع مع زعيم التنظيم أيمن الظواهري، وهم الغلبة. إضافة إلى ذلك، بات طبيعياً أن تبدل فصائل كثيرة ولاءاتها. وهذا ما يعقد مهمة الساعين، خصوصاً الأميركيين، إلى التوافق على لائحة واضحة بالتنظيمات الإرهابية. كما أن فصائل الجبهة الجنوبية تعيش في فضاء آخر تبعاً لأجندات رعاتها الإقليميين في إطار تفاهم يكاد يكون الثابت الوحيد. وهو ما حال دون تحركها في الفترة الأخيرة لتخفيف الضغط مثلاً عن المناطق التي كان النظام يحاصرها وبدأت «تستسلم» الواحدة بعد الأخرى.

 

هناك من يتوقع أن يدفع تقاسم اللاعبين الخارجيين الجغرافيا السورية الأطراف المحلية إلى تسوية سياسية، وإن بقوة الفرض والإرغام. لكن سعي هؤلاء إلى تثبيت مصالحهم أولاً وأخيراً يعقد الحلول. وقد فاقم تدخل تركيا الوضع وبدل المشهد كلياً. باعد بين الحلفاء القدامى والجدد. صحيح أن أنقرة تفاهمت مع الجميع بمن فيهم دمشق، إلا أنها بالتأكيد لن تعود إلى الوراء مثلها مثل الذين سبقوها إلى الميدان. بل تستعجل الخطى نحو مشاركتهم في المستنقع السوري. وهكذا يتساوى الجميع في العجز عن الحسم ما دام لا قدرة على بناء نوع من التوازن بين المصالح المتضاربة. فلروسيا حساباتها التي لا تلتقي وحسابات أميركا وتركيا. بل لا تلتقي في النهاية مع حسابات النظام وحليفه الإيراني الذي يتهم بالمساهمة في سياسة التهجير ودفع عجلة التغيير الديموغرافي. علماً أن تدخلها العسكري طال أمده المقرر ولم تستطع فرض التسوية لعجزها عن إلحاق هزيمة ساحقة بخصوم النظام. وهي لا تسقط من حساباتها قدرة الآخرين على إغراقها في المستنقع. فكيف لها أن تقيم توازناً بين ما ترغب فيه وما يرغب الآخرون فيه؟ وللولايات المتحدة مصلحة في الحفاظ على علاقات استراتيجية مع أنقرة، لكنها في النهاية لا يمكنها التخلي عن دعم «وحدات حماية الشعب» طرفاً قادراً على مواجهة «داعش»، لكنه خصم لدود تضعه حكومة بن علي يلدريم في سلة واحدة مع حزب العمال الذي تقاتله «تنظيماً إرهابياً». وهكذا تبدو في حيرة لا تسمح لها باعتماد سياسة راسخة وثابتة، وتضعف حربها على الإرهاب. أما الرئيس رجب طيب أردوغان فهو الآخر يعيد النظر في حساباته لتقويم الأخطاء. ولن يكون سهلاً على حكومته أن تقيم توازناً بين رغبتها في احتضان المعارضة وسعيها إلى تطبيع العلاقات مع النظام في دمشق. هذا من دون الحديث عن أوروبا التي يضايقها الثنائي الروسي – الأميركي، لكنها لا تبدو قادرة على فرض موقفها وهي تغرق في أزمة اللاجئين ومواجهة ذئاب «تنظيم الدولة» في مدنها وشوارعها.

 

حيال عجز الجميع عن الحسم العسكري وابتعاد التسوية كأنها باتت من المستحيلات، لا يبقى سوى ترسيخ حدود تقاسم المسؤوليات الذي يفرضه تدخل المتدخلين بانتظار أن ترسو سورية الجديدة على خريطة فيديرالية تأخذ الواقع القائم على الأرض والتغييرات التي فرضتها الحرب الأهلية… إلا إذا لم يعد مفر من التقسيم الفعلي الذي أصبح حقيقة على الأرض بقوة الكبار الدوليين والإقليميين مباشرة أو عبر وكلائهم، وينتظر نضج الظروف في المنطقة كلها وتفاهم الكبار على النظام الدولي الجديد. وقد لا ينفع الرهان على تغيير واسع وكبير تقوم به إدارة أميركية جديدة، خصوصاً إذا قدر لهيلاري كلينتون دخول البيت الأبيض. الخريطة السورية ترتسم فيها حدود باتت شبه ثابتة والحرب على «داعش» ليست أولوية جميع اللاعبين. بل هناك في إسرائيل من يحذر من القضاء نهائياً على «دولة البغدادي» لأنه يرى إلى بقائها ضرورة لمواجهة تحالف موسكو – طهران – دمشق!

 

 

 

 

 

Comments (0)
Add Comment