سورية وأسبوع الصخب في نيويورك

راغدة درغام – الحياة

 

وأخيراً، ثار غضب وزير الخارجية الأميركي جون كيري واحتدّ في مجلس الأمن الدولي، وهو يشكّك في صدقية زميله العزيز الغالي على قلبه، نظيره الروسي سيرغي لافروف، في المسألة السورية. وصلت لحظة الحقيقة، قال كيري. والمسألة ليست نكتة، أضاف الوزير الأميركي الذي وجد نفسه عرضة للسخرية في بعض الأوساط الأميركية وغير الأميركية وهي تصفه بالساذج أمام المحنك في المكر، سيرغي لافروف. فالنكتة باتت على كيري ووزارة الخارجية الأميركية عندما تجيب عن كل سؤال جدي بأن كيري سيجتمع بلافروف وكأن الثنائي هو مؤشر المستقبل السوري بـ “رواق” بعيداً من المأساة اليومية التي بالكاد تؤرقهما قليلاً. المفاجأة في مجلس الأمن هذا الأسبوع لم تأتِ من فراغ لأن صبر إدارة أوباما وصل الحدود نتيجة الاستفزازات والمراوغات الروسية المتتالية، وبسبب تفاقم الكلفة الإنسانية الباهظة في سورية. إنما ماذا يعني أن ينفعل كيري وأن يعبس باراك أوباما في وجه نظيره الروسي فلاديمير بوتين احتجاجاً على السياسات والممارسات الروسية في سورية؟

 

الكرملين لن يخاف كثيراً لأن بوتين واثق من أن أوباما عاجز عن الوقوف في وجهه عملياً لما يتطلب ذلك من مواجهة أميركية – روسية في أجواء سورية. الكلمة الرئيسة هنا هي “العجز” لأن روسيا بنت كل سياستها نحو سورية على أساس أن الولايات المتحدة في عهد أوباما أصبحت الدولة “العجوز”، وأن واشنطن كبّلت أياديها بنفسها في سورية وباتت عاجزة عن التصرف كدولة عظمى، ليس فقط لأن أميركا لا تريد أن تحارب وإنما لأنها أيضاً أرادت إرضاء إيران كيفما كان حفاظاً على إنجاز الاتفاق النووي معها – فكان عليها طأطأة الرأس أمام الأولوية الإيرانية في سورية وهي التمسك ببقاء بشار الأسد في السلطة. هذا لا يعني أن سيد الكرملين ليس قلقاً بالمطلق، بل إنه ازداد قلقاً بعدما “أخطأت” الطائرات الأميركية – وفق ما تقول واشنطن معتذرة – عندما شنّت غارة ذهبت ضحيتها قوى نظامية سورية وغير نظامية إيرانية وميليشياوية تابعة لها. هذا الأمر أيقظ فلاديمير بوتين إلى القليل من التواضع وأثار فيه الكثير من السخط، فهو لا يشتري أبداً مقولة “الخطأ”، ويفهم ما حدث بأنه رسالة متعمدة عنوانها موسكو بقدر ما هو دمشق.

 

بوتين يدرك أن وضعه أكثر هشاشة من وضع أوباما لأن لا قوات أميركية في سورية، فيما روسيا دخلت طرفاً في الحرب الأهلية السورية، ولأن معركة حلب مازالت مصيرية، ولأن الضغوط على بوتين تتزايد في عقر داره بعدما نصب روسيا في الخط الأمامي للحرب مع “داعش” وأمثاله، ولأن روسيا ترتكب ما يرقى إلى جرائم حرب في سورية كما تؤكد منظمات غير حكومية، ولأن سورية تزداد شبهاً بمستنقع يتربص بروسيا فيما الولايات المتحدة تستعد – ولو متأخراً – لسلك الطريق الأخلاقي الأعلى فيما الورطة الروسية الأخلاقية في سورية تتفاقم.

 

كان هذا أسبوع سورية على هامش الدورة الـ71 للجمعية العامة للأمم المتحدة التي شارك فيها أوباما وغاب عنها بوتين. الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بسط نفسه أينما كان وكيفما كان ليطرح أولوياته، ومن ضمنها، إنشاء منطقة حظر جوي في شمال سورية على طول الحدود التركية. اتهم “حزب العمال الكردستاني” بأنه يسعى وراء تقسيم سورية، وتعهَّد الحرص على وحدة سورية الجغرافية والسياسية. اعتبر أن عملية “درع الفرات” أمّنت الحماية وأنه حوّل جرابلس من حزام كان يمكن أن يكون إرهابياً إلى منطقة آمنة. ودعا أردوغان مجلس الأمن إلى محاسبة النظام السوري على جرائمه التي من ضمنها “استهدافه قافلة المساعدات” الإنسانية في حلب الاثنين الماضي.

 

فرنسا قالت على لسان رئيسها فرنسوا هولاند إن المأساة السورية ستبقى “وصمة عار على جبين المجتمع الدولي ما لم نضع حداً لها فوراً”، وأن “حلب مدينة شهيدة حيث تُستهدف القوافل الإنسانية، ويجوع السكان، وتُستخدم الأسلحة الكيماوية”. طالب هولاند “داعمي النظام”، روسيا وإيران، بأن “يرغماه” على إحلال السلام “وإلا سيتحملان مسؤولية الفوضى في سورية”. طالب بمعاقبة مَن استخدم الأسلحة الكيماوية في سورية، بعدما أكد تقرير دولي أن النظام و “داعش” استخدما تلك الأسلحة المحظورة.

 

وزير خارجية فرنسا جان ماري إرولت طرح مبادرة من 3 نقاط تتضمن إصدار مجلس الأمن قراراً بموجب الفصل السابع من الميثاق يدين ويعاقب مَن استخدم الأسلحة الكيماوية. وقال: “لا يمكن القبول بمساومة، كأن نتقيد بالهدنة مقابل التخلي عن الملاحقات بحق مستخدمي السلاح الكيماوي”.

 

اقترح إرولت “إنشاء آلية مراقبة لوقف إطلاق النار” وإقامة نظام مراقبة مشترك للهدنة، تشمل فرنسا ولا تقتصر حصراً على الولايات المتحدة وروسيا. وضمن ما اقترحه الوزير الفرنسي كان فرض تجميد قوى النظام السوري في مكانها وفرض حظر على تحليق الطيران الحربي.

 

جون كيري طالب روسيا بمنع تحليق الطيران الحربي السوري في المناطق الرئيسة المتفق عليها في شمال سورية وإجبار النظام على التنفيذ، وذلك أثناء جلسة مجلس الأمن الصاخبة التي شهدت سجالاً بين كيري ولافروف. الوزير الروسي احتج على “شروط مسبقة” من الجانب الأميركي، فرد كيري بأن “عدم قصف المستشفيات والمدنيين وقوافل المساعدات ليس شرطاً مسبقاً، بل هو اتفاق دولي يتم انتهاكه في شكل متكرّر”. قال: “كيف يمكن البعض الجلوس إلى الطاولة والتحدث فيما النظام السوري يقصف شعبه بالكيماوي؟”.

 

روسيا، كما قال لافروف، مازالت متمسكة بضرورة العودة إلى مراجعة لائحة التنظيمات الإرهابية لإضافة تنظيمات جديدة إليها. وأضاف أن روسيا تحتاج ضمانات جديدة بأن للولايات المتحدة “نفوذاً على الأرض وعلى المجموعات التي تقول أنها ستتقيد بالاتفاق”.

 

ماذا عن العملية السياسية والتي تبدو كأنها في المقعد الخلفي للاعتبارات الروسية والأميركية؟ الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون دعا إلى استئناف المفاوضات موضحاً أن على الجلسة الأولى التركيز على “الانتقال السياسي، خصوصاً كيفية ممارسة السلطات من جانب هيئة الحكم الانتقالية، بما يشمل الرئاسة والسلطات التنفيذية الأخرى”. تحدث عن مفاوضات تؤدي إلى تشكيل الهيئة ذات الصلاحيات التنفيذية الكاملة، وزاد أن مبعوثه ستيفان دي ميستورا سيقدم إطار عمل جديداً للمفاوضات. دي ميستورا قال أنه سيقدم اقتراح إطار عمل يستند إلى مبادئ “معالجة ممارسة السلطة من جانب هيئة الحكم الانتقالية، بما يشمل الرئاسة، والمشاركة في السلطة، وإيجاد هيئات انتقالية للإشراف على وقف النار والمساعدات الإنسانية، وإيجاد البيئة المؤاتية لممارسة النشاطات السياسية سلمياً، ومواصلة الدعم الدولي للعملية”.

 

صارح دي ميستورا المعارضة السورية بمخاطبتها بأن “عليها أن تفهم أن أي انتقال لن يكون محصوراً في شأن شخص واحد ونقل السلطة من جانب سياسي إلى آخر”. وتوجه إلى الحكومة السورية قائلاً ان “عليها أن تعي أن الانتقال يتضمن نقلاً حقيقياً للسلطة، وليس مجرد ضم المعارضة إلى الحكومة التي يحكمها شخص واحد”. لافروف قال لدي ميستورا أنه مازال يتمتع بالدعم الروسي له، إنما نصحه بألا يخضع “للابتزاز”.

 

أسبوع سورية في الأمم المتحدة لم يكن في مصلحة الديبلوماسية الروسية التي وجدت نفسها منعزلة فيما أنظار العالم انصبت على الخروقات الرهيبة للقوافل الإنسانية وعلى التجويع والتشريد والقصف، سياسة يعتمدها النظام في دمشق بدعم من حلفائه، روسيا وإيران والميليشيات التابعة لها.

 

ازدادت الضغوط الإعلامية والسياسية هذا الأسبوع بسبب حضور حلب إلى نيويورك أثناء الجمعية العامة ونتيجة العملية العسكرية الأميركية في سورية الجديدة نوعياً – خطأ كانت أو عمداً. إنما ما انتهى إليه الأسبوع هو الاستنتاج بأن التصادم الأميركي – الروسي السياسي ليس مؤشراً إلى نهاية النزاع، بل قد يكون المؤشر إلى إطالته. والأمر يعتمد على ما في ذهن بوتين في الكرملين، لا على أقوال أوباما وهولاند في نيويورك. يعتمد أيضاً على ما سينفذه أردوغان.

 

أما الرئيس الإيراني حسن روحاني، فكانت زيارته تحت الرادار، عكس زياراته السابقة. لعله قرر أن الأفضل له الآن الاختباء عن الأضواء كي لا يوضع في خانة الاتهام والمساءلة عمّا تقوم به إيران في سورية. الواضح أنه لم يتعرّض لضغوط جدية نافذة من نظيره الأميركي، أو من القادة الغربيين.

 

سرعان ما ستحاول الديبلوماسيتان الأميركية والروسية استدراك التوتر في العلاقة الثنائية لأن الملفات الإقليمية بينهما لا تقتصر على سورية. سيتم ترميم العلاقة ظاهرياً بعدما أصابها الصدع علناً لأن الدولتين حريصتان على الشراكة الضرورية بينهما بالذات في سورية.

 

الخطر يكمن في الترميم. فطالما تضع الدولتان علاقاتهما الثنائية فوق كل اعتبار، ستبقى ساحة التضحية سورية. فلقد كانت معالم المواجهة منذ البداية ذات حدود ولم يتوقع عاقل أن تتطور إلى مواجهة ميدانية. ترجمة هذه المعادلة أن لملمة الخلافات ستعني التورية على المأساة السورية كي لا تفضح ذلك النقص الفظيع في المواقف المبدئية.

 

أسبوع الصخب في نيويورك ليس حدثاً عابراً لكنه لن يصبح ذا معنى ما لم تهتز العلاقة الأميركية – الروسية بجدية، لا بمجرد خطابات رفع العتب التي لها نكهة التفاهمات المسبقة على أولوية استمرار الشراكة تحت أي ظرف كان بما فيه اللاأخلاقية السياسية نحو سورية.

Comments (0)
Add Comment