ضاقت الفجوة بين موسكو من جهة وطهران ودمشق من جهة اخرى وباتت القوات العسكرية التابعة للأطراف الثلاثة ماضية في سباق مع الزمن لتطبيق استراتيجة من أربع نقاط تضمن «تحصين» دمشق واستسلام حلب وتحقيق تقدم عسكري في مناطق اخرى وفرض تسويات مع «تطويع» الأمم المتحدة واحتمال إجراء تغييرات سياسية قبل وصول الرئيس الأميركي الجديد الى البيت الأبيض بداية العام المقبل.
ووفق ديبلوماسيين وسفراء زاروا دمشق في الأيام الماضية، فإن مزاج المسؤولين السوريين بات «عالياً جداً والمعنويات مرتفعة على عكس اشهر سابقة، وباتوا أبعد ما يمكن عن مزاج قبول تسويات مع المعارضة السياسية او مع الأمم المتحدة».
بالنسبة الى العلاقة مع الأمم المتحدة، نجحت دمشق في «فرض» ممثل جديد للأمم المتحدة هو علي الزعتري مساعد المبعوث الدولي الى ليبيا ومنحته تأشيرة دخول (فيزا) خلال ايام قليلة وسيصل الى دمشق في الثالث من تشرين الأول (اكتوبر) خلفاً ليعقوب الحلو. كما اعتمد ستيفان دي ميستورا المبعوث الدولي ستيفاني الخوري ممثلة له في دمشق بدلاً من خولة مطر التي انتقلت الى «لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا» (اسكوا) في بيروت مع احتمال اشرافها على مشروع «الأجندة السورية».
كما قبل «برنامج الأمم المتحدة الإنمائي» تمويل مشروع اعادة اعمار في حمص القديمة، وحضر المستشار العسكري للأمم المتحدة أمير ندى جلسات تفاوض لفرض تسويات في مناطق عدة بينها اخراج نازحي داريا من معضمية الشام الى ريفي دمشق وإدلب. وبعد الغارة على قافلة مساعدات في ريف حلب، لاتزال الحكومة السورية ترفض منح اذونات لخطة الأمم المتحدة ادخال مساعدات انسانية الى مناطق محاصرة او صعب الوصول اليها، الأمر الذي نوقش في اجتماعات مجموعة العمل الإنسانية المنبثقة من «المجموعة الدولية لدعم سورية». كما رفضت أي دور جوهري للأمم المتحدة في اتفاقات المصالحة خصوصاً بعد انتقاد دي ميستورا خطة اخراج مقاتلي داريا ومدنييها.
وأشار ديبلوماسيون الى ان الحضور الروسي بات اعمق في ترتيب اتفاقات المصالحة وحضر ضباط من القاعدة العسكرية الروسية في حميميم في اللاذقية مفاوضات التسوية في اكثر من مكان. اوضح خطوة، كانت رعاية القاعدة الروسية الاتفاق بين الإدارات الذاتية الكردية والقوات النظامية السورية في الحسكة قبل اسابيع، وسط تردد أنباء عن ترتيب الجيش الروسي محادثات بين الأكراد ومسؤولين أمنيين في دمشق. وأبلغ ديبلوماسي روسي «مجموعة العمل الإنسانية» ان طائرات روسية حلقت فوق مقاتلي المعارضة لدى اخراجهم من داريا لـ «التأكد من عدم حصول اي هجوم عليهم». واعتبر ما حصل في داريا «نموذجاً يحتذى»، في وقت انتقد معارضون اخراج آلاف المدنيين من مدينتهم من دون أي حديث رسمي سوري او روسي عن عودتهم او اعادتهم وسط مخاوف من «تغيير ديموغرافي».
وبعد مرور حوالى سنة على التدخل المباشر، باتت الحضور العسكري الروسي واضحاً في غرف عمليات الجيش السوري ومفاصله. وكان لافتاً ان وسائل الإعلام الرسمية الروسية نشرت احصائية عن مشاركة اكثر من اربعة آلاف جندي روسي في مراكز عسكرية في اللاذقية وطرطوس وحماة وحلب ودمشق وتدمر للتصويت في الانتخابات البرلمانية الروسية.
وتحدث سفير اوروبي عن وجود ضباط روس في هيئة الأركان السورية في دمشق وأن الهدف الروسي ضمن خطة لتكرار التجربة السابقة عندما كان هناك حوالى ٢٥ ألف عسكري روسي في سورية من السبعينات الى منتصف الثمانينات، لافتاً الى ان الجيش الروسي بات يملك اليدى الطولى و«ضيق هامش المناورة للجانب السوري، لكن في الوقت نفسه باتت الفجوة اضيق بين موسكو وطهران ودمشق». وقال: «هناك استسلام سوري لدور روسيا باستثناء ألعاب صغيرة قد تتعلق بمصالح شخصية». ووفق الديبلوماسييين، فإن «استراتيجية النصر» تقوم على اربعة عناصر:
الأول، «تحصين» دمشق عبر وضع جيوب المعارضة المسلحة بين خيارين: الخروج بشروطنا او الاستعداد لقصف وحصار لايحتملان». وتبلغ قياديون معارضون هذه المعادلة في داريا ومعضمية الشام ويلدا جنوب دمشق وجنوبها الشرقي، اضافة الى بدء شيء مماثل في قدسيا شمال غربي العاصمة. وعلم ان رجل اعمال مقرب من الرئيس بشار الأسد جال في الغوطة الشرقية لدمشق عارضاً عقد تسوية مع الحكومة بما يشمل «استسلام» دوما معقل «جيش الإسلام» وفك الحصار الذي تفرضه القوات النظامية السورية.
الثاني، تحقيق انتصارات عسكرية وتكرار «نموذج غروزني» الذي تعتبره وزارة الدفاع الروسية «ناجحاً». ويشمل هذا مد السيطرة على مناطق اخرى في «سورية المفيدة» خصوصاً حلب، العاصمة الاقتصادية لسورية. وبينما كانت طهران ودمشق تريدان فرض الحصار على الأحياء الشرقية لحلب، كانت موسكو قبل اشهر مع فكرة وقف النار في حلب. لكن في الأيام الأخيرة تطابقت الآراء بين الأطراف الثلاثة، بحيث انخرطت روسيا برياً وجوياً عبر المشاركة في حملة القصف وإرسال جنود محسوبين على موسكو ليساهموا في عملية مكثفة بمشاركة القوات النظامية وميلشيات ايرانية لإطباق الحصار على شرق حلب ثم السيطرة عليه.
كما يشمل هذا تعزيز موقف القوات النظامية في مناطق سيطرتها في مناطق اخرى مثل حمص وإخراج جميع مقاتلي المعارضة منها وتطبيق اتفاق التسوية في حي الوعر، بحيث ينتهي اي وجود للمعارضة في «عاصمة الثورة» بالتوازي مع بدء مشروع للإعمار وفق اولويات دمشق وحلفائها.
ثالثاً، تتضمن هذه الخطة ترك ريف حلب الشمالي لتركيا ضمن تفاهم روسي – تركي وضمن نتائج اللقاء الأمني الذي جرى في بغداد بين مسؤولين امنيين سوريين وأتراك الشهر الماضي، بحيث يجري طرد «داعش» من شمال حلب الى حدود تركيا مع ضبط حدود تمدد فصائل سورية معارضة باتجاه مدينتي الباب ومنبج، مع الاستمرار في مراقبة حدود التدخل التركي وما اذا كان سيشمل التمدد الى الرقة شرقاً لطرد «داعش» من دون دور عميق للأكراد.
كما تتضمن الخطة ترك ريف حلب الغربي باتجاه محافظة ادلب وريفي حماة وحمص. ترك «جيش الفتح» الذي يضم فصائل اسلامية بقيادة «فتح الشام» و«احرار الشام»، اضافة الى فصائل اسلامية اخرى مثل «جند الأقصى»، تسيطر على محافظة ادلب. وفق قول ديبلوماسي روسي الى سفير اوروبي، فإن «التعاطي مع هؤلاء مؤجل الى مرحلة لاحقة» ما يعني ان اولوية موسكو وحلفائها هي القضاء على المعارضة المعتدلة. آخر اشارة الى هذا، كانت قصف وحدة تابعة لـ «جيش ادلب الحر» في ريف حماة، بعد ساعات من توحد ثلاثة فصائل معتدلة هي «الفرقة ١٣» و «تجمع صقور جبل الزاوية» و «الفرقة الشمالية»، علماً ان هذه الفصائل في صدام مع «جبهة النصرة» في ادلب، مع استمرار معركة السيطرة على جسر الشغور وعزل إدلب.
هناك جهد حثيث لدفع فصائل معتدلة الى حضن «فتح الشام» كما حصل بإعلان «حركة نور الدين زنكي» التنسيق العسكري مع «جيش الفتح»، بحيث تكون المعادلة ان الأطراف الثلاثة، موسكو وطهران ودمشق، تخوض «معركة ضد الإرهاب».
رابعاً، تقترح موسكو على دمشق وطهران ضرورة «شرعنة» هذه الخطة بإصلاحات سياسية، وتتضمن مقترحات عدة بين تشكيل «حكومة وحدة وطنية» من معارضين مقبولين من خارج البلاد وداخلها او اسلاميين او تعيين ثلاثة نواب للرئيس الأسد. هنا، تختلف الآراء بين الحلفاء الثلاثة، ذلك ان دمشق تقاوم اي اصلاح سياسي ذي معنى وتعتصم بـ «السيطرة المطلقة»، وهي تريد تأجيل الحديث عن العملية السياسية الى مابعد «الانتصار العسكري» وتبدي طهران استعداداً لقبول قوى اسلامية سياسية في عملية سياسية او في «محاصصة سياسية طائفية»، في حين ترفض موسكو مشاركين الإسلاميين و «المحاصصة الطائفية» وتقترح اصلاحات سياسية «من فوق» تتضمن خياري تعيين نواباً للرئيس او تشكيل مجلس عسكري مشترك.
رهان موسكو وحلفائها، وفق ديبلوماسيين، ان الخطة رباعية الأبعاد، ستحد من خيارات الرئيس الأميركي الجديد وقدرته على الرهان على المعارضة المعتدلة او اجراء تغييرات عسكرية في ميزان القوى، ما يجعل واشنطن في بداية العام المقبل اكثر استعداداً لتسوية بشروط روسيا وحلفائها… وقبول دول غربية للتعاطي مع النظام السوري كأمر واقع بانتظار الخطوة التالية وهي «استعادة الشرعية».
الحياة