عبد الباسط سيدا – الحياة
تقول الحكاية الكردية أن أحدهم سأل صديقه مستفسراً عن هوية قاتل والده: هل الذي قتله كان راكباً أم راجلاً؟، فأجابه الصديق: هذا لا يغيّر من الأمر شيئاً، لأن والدي قُتل على كل حال.
ما دفعني إلى سرد هذه الحكاية يتمثّل في جملة التحليلات التي قُدّمت وتقدّم لمقاربة القيامة السورية، ومحاولة إلقاء الضوء على بواعثها وخفاياها، وهي محاولات تأخذ منحيين أساسيين.
الأول، يرى أصحابه أن ما تعرّض ويتعرّض له الشعب السوري هو حصيلة تضاد الإرادات والمصالح الدولية، وانشغال أصحاب القرار الدولي بأمور أخرى أهم بالنسبة إليهم من مستقبل الشعب السوري وطموحه نحو الحياة الحرة الكريمة، وهو طموح يتناقض بالمطلق مع وجود زمرة قاتلة فاسدة، أحرقت الأخضر واليابس، ودمّرت البشر والحجر.
أما أصحاب المنحى الآخر من الموالين للنظام، أو التابعين له، والمتناغمين معه، بمن فيهم بعض بقايا اليساريين المتكلّسين، فيدّعون أن ما تعرضت له سورية بشعبها ومدنها وقراها كان نتيجة مؤامرة كونية استهدفت النظام العلماني حامي الأقليات، والمدافع عن الحق العربي في مواجهة المشروع الإسرائيلي والغربي الاستعماري عموماً.
وبعيداً من حجج الفريقين، وبصرف النظر عن مدى توافقها مع الواقع، وبالعودة إلى الحكاية الكردية المشار إليها، نرى أن سورية قد دُمرت، وأهلها قد شردوا في معظمهم، أما من بقي منهم في مناطق سكنهم فيعيشون كابوس القادم المجهول.
أي مصير ينتظر سورية والسوريين؟ سؤال يُطرح كثيراً، والأجوبة التي تُقدم عنه غالباً ما تدخل في عداد التخمينات أو الاحتمالات، لأن مقادير الحسم لم تعد في أيدي أبناء البلد أو الإقليم، بل أصبحت في عهدة اللاعبين الكبار، هؤلاء الذين غدت سورية بآلامها وآمالها في حساباتهم مجرد ورقة ضمن حزمة أوراق الصفقات والبازارات.
في بداية الثورة، قبل نحو ستة أعوام، سئلنا في غير مناسبة عن مدى احتمال تقسيم سورية، وكان جوابنا المعتاد هو استحالة ذلك، وكانت الحجة الأساسية أنه من الصعب تهجير نحو مليون سني أو أكثر من المنطقة الساحلية في سبيل إقامة كيان طائفي تحدث عنه كثر، وما زالوا يتحدثون. والأمر نفسه بالنسبة إلى العلويين في دمشق، والكرد في دمشق وحلب، وهكذا بالنسبة إلى مختلف مكوّنات المجتمع السوري.
لكن بعد كل الذي حصل وبعدما تم تهجير الملايين عوضاً عن المليون، وبعد تدمير الحاضرات السورية، لا سيما حلب وحمص، باتت الأبواب مفتوحة أمام كل المشاريع السوداوية، المعقولة منها واللامعقولة، حتى أن كل الإشاعات تجد لها أرضية خصبة بين معشر المنفعلين.
الوضعية السورية لا تنفصل عن الوضعية العامة في المنطقة التي تشهد زلزالاً سياسياً متعدد المراكز والعوامل وغير مسبوق، الأمر الذي ينذر بموجات ارتدادية قد لا تقل في خطورتها عن الزلزال المركزي نفسه.
فالمتغيرات العميقة المتسارعة في كل من سورية والعراق، بخاصة في ضوء معارك الموصل وحلب، وعلى الأكثر الرقة في وقت قريب، والانعطافات الحادة في الوضعين اليمني والليبي، والغليان الداخلي في مصر وتفاعلاته الإقليمية، كل هذه العوامل ستكون لها انعكاسات على واقع الدول المجاورة، انعكاسات ستتمظهر في هيئة أخطار تهدد استقرارها وحدودها وأدوارها. وهي أخطار متضايفة متفاعلة مع الاستراتيجية التي اعتمدها النظام الإيراني منذ أوائل الثمانينات، وهي استراتيجية توظيف المذهب لخدمة المشروع التوسعي عبر نقل المعركة إلى أراضي الآخرين. وقد تقاطعت الاستراتيجية المعنية في أوجه عدة مع السياسية الأميركية الانسحابية اللافتة، والنزعة الاندفاعية الروسيـة. وهـذا مـع الإقـرار بـتـبايـن مـسوغـات كل طرف.
من الإشكاليات الكبرى التي تواجه السوريين، انعدام صلاحية النظام القائم، وعدم أهلية المعارضة، بوضعها الراهن، لطرح المشروع البديل المقنع الذي يطمئن الداخل الوطني السوري بكل مكوّناته. فالنظام فَقَدَ كل الأهلية والشرعية لاستعادة سورية الموحدة، والمعارضة بخلافاتها وخصوماتها وثغراتها لم تتمكن بكل أسف من استغلال نقاط قوتها، وتجاوز بواعث ضعفها.
وما ترتب على ذلك تحوّل الورقة السورية إلى مجرد مادة منفعلة في انتظار أفعال الآخرين، بحيث وجدنا أنفسنا نبني تقديراتنا على ما نعتقد أنه قُرّر أو سيقرّر في شأننا من أولياء الأمور: أميركا وروسيا.
سورية التي نعرفها لم تعد موجودة. وسورية التي ننتظرها ما زالت في حكم المجهول. وكل حديث عن إمكان التوصل إلى حل وطني توافقي، يكون في مصلحة جميع السوريين من دون استثناء، يدخل لدى معظمهم في عداد الاستحالات العصيّة على أي تحقّق واقعي.
ومع ذلك، يظل هذا الحل، الوطني الموحد، هو الأنجع لاستعادة وحدة النسيج الوطني السوري، وإنعاش ثقة السوريين بمستقبل كريم لأجيالهم المقبلة. وحلّ كهذا يستوجب تحرّك النخب السورية المحبة والمخلصة لوطنها وشعبها بكل شرائحه وانـتماءاته وتـوجهاته وجهاته، بعيداً من الحسابات السياسية المنهِكة، والعقد الانتقامية.
فمن دون حوار سوري – سوري حقيقي، صريح مسؤول، بين النخب التي لم تفقد توازنها بعد، على رغم كل هذا التجييش الذي نعيشه، ولم تتلوث عقولها بسرطان الانغلاق الطائفوي أو القوموي، لن نتمكّن من رؤية الموزاييك السوري الذي يظل موضوع حنيننا المستمر، ولن تستعيد سورية عافيتها، بل سنكون جميعاً مجرد أحجار شطرنح تتحرك بموجب ما تمليه إرادات المتحكّمين.