توفيق الحلاق – جيرون
رن جرس الهاتف في بيتي الدمشقي، وكان ذلك مساء يوم أربعاء من صيف عام 1991، على الطرف الآخر كان مكتب الرئيس حافظ الأسد، وجرى هذا الحوار: “بدي قلك أخي توفيق في شب طلع في برنامجك قبل شي ساعة، السيد الرئيس بدو ياك تروح على مستشفى تشرين العسكري وتاخدو معك، بدو يشوفو الدكتور بشار ابن السيد الرئيس”.
على الموعد كنت هناك، بدا لي بشار وهو يصافحني ويردد عبارات الترحيب بصوت أجشٍ متقطع شابًا مؤدبًا خجولًا متواضعًا، جلس ضامًا ساقيه، محنيَّ الظهر، ليستمع إلى قصة بطل الحلقة الحموي الذي كان يحلم بدخول كلية الصيدلة. أراد حافظ الأسد تحقيق رغبة الشاب الذي ينتمي إلى مدينة حماه التي كان دمرها على رؤوس أبنائها، ويحمل الاسم نفسه (حافظ)؛ لسبب سياسي براغماتي، وليس لأن الشاب يستحق التكريم.
بعد ثماني سنوات من ذلك التاريخ، في 8 تشرين الأول/ أكتوبر 1999، سيستقبله رئيس جمهورية فرنسا جاك شيراك في قصر الإليزيه مدة ساعتين ونصف، ويتحدث معه حول قضية السلام مع إسرائيل، وعن دور سورية في لبنان، وعلاقاتها مع أوربا، كما لو كان رئيسًا لسورية وليس مجرد عقيد في الجيش، دون أي منصب سياسي، وربما كان ذلك النفخ في جسده النحيل السبب في تعثره على درج الإليزيه، وتعرضه للسقوط والكسر، لولا أن جاك شيراك أمسك بذراعه.
بعد أقل من سنة، في 14 حزيران/ يونيو 2000، ستأخذ بيده هذه المرة وزيرة الخارجية الأميركية آنذاك، مادلين اولبرايت، وتشيد بالانتقال السلس والهادئ والمنظم للسلطة في سورية، في عقب لقائها به، في أثناء تقديم تعازيها بوفاة حافظ الأسد. وقالت أيضًا: “يبدو أن بشارًا يتمتع بتصميم كبير ومستعد لإتمام واجبه”. وردًا على سؤال عن مسألة خلافة الرئيس الأسد قالت: “إن سورية تملك (نظامًا يعمل بطريقة سلمية ومنظمة)”. وكان بيل كلينتون قد نفخ فيه الروح قبلها هاتفيًا قائلًا له: من المهم أن تسير على خطى والدك فأنا أحترمه كما تعلم!! كان حافظ الأسد قد مهّد لخلافة ابنه عند أميركا وفرنسا وإسرائيل، وطلب دعمهم، ولم يلتفت لروسيا والصين وإيران، وفي لقاء للفنان جمال سليمان مع الجالية السورية في واشنطن، أكد ما قاله سابقًا بأن بشار الأسد أبلغه في لقاء تم بينهما عام 2011 أن إسرائيل لن توافق على إسقاط نظامه.
بالعودة إلى فترة مراهقة بشار الأسد في مدرسة الفرير قرب قصر المهاجرين بدمشق، يروي زميله إياد نحاس في صفحته على (فيسبوك): “كان يبدو لطيفًا، لكنه لم يك حاد الذكاء، وكنا نسخر منه أحيانًا دون أن يفطن أو يفهم النكتة التي تعنيه، فيضحك نفس ضحكته البلهاء التي لا يزال يضحكها اليوم، وبالطبع ما كان أحد منا يتوقع أن يرسب بشار الأسد مهما بلغ جهله أو ساءت إجاباته في الامتحان. وبغض النظر عن الـ ـ30 علامة الإضافية التي يأخذها منتسبو دورة المظليين التي كان قد اتّبعها، و الـ 30 علامة الأخرى التي تُعطى للبعثيين، كنا جميعًا نتوقع أن تزوّر النتائج لينجح بشار نجاحًا باهرًا. ولكن ما أدهشني هو الأسلوب الذي اتبعوه في الغش، وهذا الأسلوب يظهر كيف احترف هذا النظام الكذب على جميع المستويات. فقد كان بشار يأخذ ورقة الامتحان ويكتب اسمه ورقمه ويطوي زاوية الصفحة ويقوم بالإجابة على الأسئلة مثله مثل جميع الطلاب الآخرين، وقبل انتهاء مدة الامتحان بعشر دقائق يُسلِّم ورقة الإجابة للمراقب بعدما يلصق زاويتها بالصمغ ثم يغادر الغرفة. كل شيء طبيعي حتى الآن، لكن بعد دقيقتين أو ثلاث يرجع المراقب للخلف ويتشاغل بمراقبة الطلبة، بينما يدخل عنصر مخابرات وبيده ورقة إجابة جاهزة بديلة فيضعها في الظرف ويأخذ الورقة التي سلمها بشار” (انتهى الاقتباس).
كان بشار الأسد متروكًا ليفعل بمستقبله ما يريد خارج السلطة، إذ لم يك والده يُعوّل على إمكانياته العقلية والجسدية ليكون قائدًا عسكريًا أو سياسيًا كما عوَّل على شقيقه باسل الذي كان يعدّه خليفة له منذ وقت طويل. مقتل باسل الأسد بحادث سيارة وبطريقة بدت مقصودة ومدروسة بعناية مزّق خطة الأسد الأب وجعله في موقف المهزوم أمام خطة بديلة لم يحسب لها حسابًا، ولذلك دفع ملايين السوريين للبكاء والتأبين شعرًا وتماثيل وصورًا، وكان يرد بذلك ربما على قاتلي خليفته بالقول: “لن تكسروا ظهري فلديَّ بشار”.
كان بشار قد ذهب عام 1992 إلى بريطانيا لمتابعة تخصصه في طب العيون، فأعاده والده عام 1994بعد مقتل شقيقه باسل، ليُعيّن رئيسًا لمجلس إدارة الجمعية السورية للمعلوماتية، ولينتسب في نفس الوقت إلى الكلية الحربية في حمص وليتخرج منها ضابطًا ثم تدرج استثنائيًا على اعتباره ابن الرئيس برتبة ملازم أول عام 1994 ثم إلى نقيب، ففي تموز/ يوليو 1995، أصبح رائدًا وفي تموز/ يوليو 1997 حصل على رتبة مقدم ركن، وأعلن في كانون الثاني/ يناير 1999 عن ترقيته إلى درجة عقيد ركن، وأصبح قائد لواء مدرع في الحرس الجمهوري.
كان يشكو بشار الأسد طوال فترة طفولته ومراهقته من الشعور بالوحدة، ويشهد زملاؤه أنه كان انطوائيًا يجلس بعيدًا عنهم فترة الاستراحة، كما أنه لم يحظ في بيت أهله باهتمام مشابه لما كان يحظى به باسل، بل كان مُهمّشًا إلى حد كبير، وهو كان في قرارة نفسه -كما صرّح مرارًا- يتمنى أن يُصبح طبيب عيون يملك عيادته الخاصة، ذلك المنعطف الخطير في حياته والذي حوّله من شاب خجول خفيف الوزن إلى رجل يتأهل بسرعة قياسية ليخلف والده في حكم سورية، هو ما سيحكم تصرفاته وشخصيته الشيزوفرانية.
من لا يعرف كيف يُعذَّب الناس في سجونه حتى الموت، من لم يعش تحت قصف طيرانه للمدن والقرى ويشاهد إبادة مئات الآلاف من شعبه بكافة أنواع الأسلحة بما في ذلك الكيميائية والعنقودية والبراميل المتفجرة، سوف يخدعه مظهره الأنيق وحواراته باللغة الإنكليزية والفرنسية، وحديثه عن السيادة الوطنية والدستور وحقوق الإنسان، ومقارعة المؤامرة الكونية وإسرائيل.
لم يعتمد بشار الأسد يومًا على نفسه في اتخاذ قرار مهما كان محدودًا. كان يقوده أبوه في كل خطوة منذ أن جعله وريثه بقوة الواقع والرغبة الطاغية بحكم البلد إلى الأبد، وهو قدمه على هذا الأساس للغرب وإسرائيل، وهو أوصى دائرته الضيقة بأن ترعاه بعد موته، ومنهم نائبه عبد الحليم خدام ورؤساء الأفرع الأمنية وقادة الجيش والقيادتين القومية والقطرية، وبالطبع والدته أنيسة وشقيقه السادي ماهر، وهو أضاف إلى كل هؤلاء زوجته أسماء وبثينة شعبان ووليد المعلم وغيرهم، ومع تعاظم حراك الثورة وانتقالها من طلب الإصلاح إلى طلب الرحيل، استيقظ فيه الرجل العنيف نفسيًا، الذي يفقد الإحساس بألم الآخرين، وتحوّل إلى وحش يفتك بمن يتصدى له، حتى ولو بكلمة، مهما كان الثمن، وهو اعتمد رويدًا رويدًا على أكثر أصحاب المصلحة في بقائه، بدءًا من حسن نصر الله إلى إيران وأذنابها في العراق، إلى ربيبتها (داعش) وأخيرًا روسيا بوتين، ما أدى إلى تدمير سورية وبيعها لكل هؤلاء، مقابل استمراره رئيسًا دون صلاحية.