عبدالباسط سيدا – الحياة
منذ أكثر من عام والأطراف الراعية والداعمة للنظام السوري تعتبر معركة حلب معركتها الحاسمة. هذا ما أكدّه الروس والإيرانيون وأتباعهم بأقوالهم وأفعالهم التي ترجمت واقعاً على الأرض عبر قصف المستشفيات والمدارس والأحياء السكنية. وهدف هؤلاء من معركة حلب فرض الاستسلام على المدافعين عن المدينة، وعلى السوريين جميعاً.
ومع أن الحجة الروسية في هذا المجال تقوم على زعم مفاده صعوبة التمييز بين الإرهابيين والمعتدلين من المقاتلين، تؤكد الوقائع والقرائن أن تلامذة حلب ومرضاها وأطفالها ونساءها كلهم ارهابيون في المنظور الروسي، طالما أنهم يعارضون حكم بشار الأسد. فالهدف هو ارغام السوريين على القبول بالحل الروسي الذي ينص صراحة على إبقاء نظام بشار، وتحميل الشعب السوري مسؤولية كل القتل والتدمير الذي ساد في سورية على مدى نحو ستة أعوام.
ولعله من نافل القول أن نذكر هنا أن ما تتعرض له حلب من تدمير لعمرانها، وقتل وتهجير لناسها، ما كان له أن يكون لولا الموقف الأميركي الانسحابي السلبي، الذي اكتفى بالهرولة وراء سراب الحل السياسي مع الروس، الذين كانوا قد حزموا أمرهم إلى جانب النظام مع اللحظة الأولى لانطلاقة الثورة، بل حتى في المرحلة التي سبقتها.
فقد أثّر الموقف الأميركي هذا في الموقف التركي، حتى وجد صنّاعه أنفسهم من دون أي دعم أو سند من جانب حلفائهم الأطلسيين في مواجهة الروس الذين وجدوا طرق المنطقة سالكة أمامهم، فاستغلّوا الفرصة لعرض قدراتهم العسكرية، وذلك بهدف اثبات الوجود كقوة دولية عظمى، والدخول مع دول المنطقة في صفقات تجارية تعقدها معهم هذه الأخيرة من باب دفع الشر، والاستعداد للتحدّيات الجديدة.
والأمر الذي يستوقف أكثر من غيره في الموضوع السوري هو التوافق الأميركي – الروسي على أمور ثلاثة محورية هي:
أولاً – غض النظر عن الوجود الإيراني والميليشيات المسلحة المرتبطة به في سورية.
ثانياً- اعتبار محاربة الإرهاب أولوية من دون البحث عن المقدمات التي مهّدت لهذا الإرهاب، وسوّقته، وبنت عليه.
ثالثاً- اعتماد الموقف الضبابي من موضوع مستقبل بشار الأسد السياسي.
هذا على رغم صدور جملة تصريحات أميركية تحاول إظهار التمايز عن الموقف الروسي، ولكنها هي الأخرى عائمة، هلامية، لا تشكّل أرضية لموقف صلب واضح المعالم، يمكن أن يؤخذ في الحسبان.
ومع الإعلان عن التوافق الروسي – الأميركي بعد اللقاء الماراتوني بين كيري ولافروف في 9 أيلول (سبتمبر) المنصرم بخصوص إعلان الهدنة في حلب، وإدخال المساعدات الإنسانية، كان من الواضح وجود نَفَس ارتيابي لدى العسكريين والأمنيين الأميركيين في شأن حدود صدقية الروس، وإمكانية التعاون الاستخباراتي والعسكري معهم. وقد ثبتت مشروعية تلك الهواجس بعد إقدام الروس على قصف المستشفيات وقوافل المساعدات والأحياء السكنية بعنف وحقد لافتين.
حلب ليست مدينة عادية تدخل دائرة النسيان بعد تدميرها وتجاوزها. فقد امتلكت عبر مختلف العصور التاريخية القديمة منها والوسيطة والحديثة دوراً محورياً في التحالفات والحروب والانتصارات. كما كانت مدينة التجارة والصناعة. وهي العاصمة الاقتصادية لسورية كلها، والعاصمة الفعلية للشمال السوري.
ويخطئ كثيراً كل من يتجاهل دور حلب في تاريخ المشرق، ورمزيتها الاستثنائية لدى شعوب المنطقة بعامة، والشعب السوري على وجه التخصيص. وأي تغيير فعلي لوضعية المدينة وهويتها عبر السيطرة العسكرية عليها، يُفهم منه وجود إرادة دولية – إقليمية بإحداث تغييرات كبرى في المنطقة.
النظام الإيراني يريد حسم الأمور سريعاً، لأنه يعتبر أن لحظته التاريخية قد حلت، وعليه استغلالها قبل فوات الأوان. ولكن يبدو أن الأمر ليس كذلك بالنسبة إلى الروس. فهم، على رغم اندفاعهم الصلف، يدركون أن إسقاط حلب بقوة القصف الإستراتيجي سيضعهم أمام مأزق كبير يتمثّل في الخيارين الصعبين:
هل سيتولون بأنفسهم إدارة المدينة؟ وهذا ما سيكلّفهم الكثير، ويستنزف طاقاتهم بمستويات لا يتحملونها.
أم سيسلّمون المدينة إلى الإيرانيين تحت يافطة النظام السوري المعترف به دولياً؟ وحيئذٍ يكونون قد أسسوا لشرخ إقليمي غير مسبوق في تاريخ المنطقة الحديث، شرخ ستكون له تداعيات كبرى على المستويين الإقليمي والدولي.
فتركيا لا يمكن لها في ظل أي ظرف، وتحت وطأة أي ضغط أن تقبل بحزام إيراني قد يمتد من الموصل إلى حلب، ويكون حاجزاً بينها وبين العالم العربي، وباعثاً على زعزعة استقرارها الداخلي عبر استغلال الورقة المذهبية التي أثبتت قوتها في العديد من دول المنطقة.
والسعودية، ومعها الدول الخليجية والأردن، ستجد نفسها قد طُوقت بحزام إيراني من كل الجهات، الأمر الذي ستكون له انعكاسات مهدّدة على دواخلها. كما أن الولايات المتحدة ستكون في موقع المجرَّد من كل أوراقه الإقليمية، إذ سيصبح مفتاح المنطقة الأساس بيد النظام الإيراني، صاحب المشروع الإمبراطوري الحالم.
أما أوروبا، فسيكون عليها الاستعداد لسيل جديد من اللاجئين، وربما عمليات إرهابية جديدة. هذا إلى جانب مواجهة مقبلة لمآلات تعاظم الدور الروسي، وقدرته على فرض المشاريع التوسعية، سواء بالقوة المباشرة أو عبر التهديد باستخدامها.
أما على الصعيد السوري، فلن تكون معركة حلب الكبرى، بصرف النظر عن نتائجها، المعركة الأخيرة. وإنما ستكون مدخلاً لصراع طويل بين أصحاب الأرض والحق من جهة، وروّاد مشاريع بعث العظمة المندثرة من جهة ثانية. ونظراً إلى تعارض توجهات وأهداف هذه المشاريع، وتباين خلفياتها، فإن المنطقة مقبلة على مرحلة عصيبة من الصراعات الداخلية والإقليمية التي ستكلّف شعوب المنطقة المزيد من الضحايا والموارد.
المستقبل سوداوي، ولا توجد في الأفق بوادر مشجعة توحي بإمكانية الوصول إلى نهاية النفق المظلم. وما يضفي المزيد من القتامة على المشهد بأسره، غياب الموقف الأميركي الحازم الذي يظل هو المقرر في نهاية المطاف. والخشية من استمرارية هذا الموقف في عهد الإدارة المقبلة خشية واقعية، الأمر الذي سيكون في مصلحة الاندفاع الروسي، مقابل تجميد الموقف الأوروبي الذي من الواضح أنه ليس في مقدوره بلوغ مرحلة الفعل المؤثر بمعزل عن قيادة أميركية.
ونعود إلى حلب مرة أخرى، لنؤكد الأهمية البالغة لمعركتها المقبلة. هذا مع إقرارنا بأهمية معركة الموصل أيضاً. لكن معركة حلب تظل الأهم من جهة رسم معالم الإستراتيجيات، وربما الحدود.