بهاء أبو كروم – الحياة
رهان العالم اليوم يتوقف على خبرة فريق المستشارين الذين يُعيّنهم الرئيس دونالد ترامب وأركان إدارته من المحافظين الذين يُدخلهم إلى البيت الأبيض لكي يردموا الهوة بين قلة معرفته الشخصية وقدرتهم على البت بالقضايا الدولية، ويغلب على هؤلاء الشغف بالسلطة بعدما أقصاهم الديموقراطيون عن الحكم طيلة 8 سنوات، وهم عليهم أن يتفاعلو أو يتنافسوا في الأمور الإستراتيجية مع مجموعة مشابهة لها صفة استشارية اختارها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عقب اندلاع التحولات في العالم العربي عام 2011 وغالبيتهم من المستشرقين الروس الذين تولوا مناصب سياسية وتعاطوا مع الدول والأحزاب في العالم العربي وشرق أوروبا، ومعظم هؤلاء عاصر مراحل الحرب الباردة وشهد على انهيار الاتحاد السوفياتي.
القناعة الغالبة لدى «المستشرقين» الروس تقول إن المحافظين (الجدد) يستهدفون روسيا ونظام حكمها ويتحيّنون الفرصة للعبث بالداخل الروسي، وإن القاعدة الكفيلة بوقف ذلك تقضي بتدخل روسيا في الخارج وإبعاد الأخطار عن داخلها. هذه القناعة لا تتيح قيام علاقات تسودها الثقة بين الجانبين حتى لو تعلق الأمر بانخراط مشترك في سورية. وفي ما يتعلق بالشرق الأوسط يخلص هؤلاء إلى المصلحة المشتركة التي تجمعهم مع إيران لوقف صحوة الإسلام السياسي (السني) وإشغاله قبل أن ينتقل إلى تخوم روسيا. والآن يُوجّه ترامب ضغطه الإيديولوجي في الاتجاه ذاته انطلاقاً من أولوية محاربة داعش. ويتفاءل الروس بإمكانية أن يطغى هذا الجانب في الأولوية الأميركية على القضايا الخلافية الأخرى.
بالنسبة إلى روسيا فهي تعتمد على استراتيجية تبنتها الولايات المتحدة قبل قرن من الزمن، وتتعلق بمبدأ «التدخل لمنع التدخل» الذي اعتمده الرئيس تيودور روزفلت بعد حقبة من الانكفاء عن القضايا الخارجية وفق مبدأ الرئيس جيمس مونرو.
وإذا ما أضيف لكل ذلك أن كلام ترامب عن شرق آسيا والصين لا يزال يقتصر على الشق الاقتصادي فيما الحديث عن الشرق الأوسط لديه بُعد ايديولوجي، عنوانه التطرف الإسلامي، فذلك يبشر بانتقال استراتيجي معاكس للعقيدة التي أعلنتها قبل سنوات هيلاري كلينتون في الانتقال الى الباسيفيكي، ما يعني العودة إلى التركيز على ضفتي الأطلسي وحوض البحر المتوسط. وأمام احتمال من هذا النوع يترافق مع إطلاق يد روسيا في سورية وتخوف أوروبا من تغير يصيب العلاقات مع الولايات المتحدة، فإلى أين يمكن أن يؤدي تكليف روسيا بمحاربة داعش؟
خطأ ترامب إن هو استند إلى روسيا في محاربة الإرهاب لن يكون أفدح من خطيئة أوباما التي أعادت الروس إلى مياه المتوسط بعدما غادروها قبل ربع قرن من الزمن. ومَن يتعقب مسار التمدد الروسي يلاحظ الخط الذي بدأ في ضفة البحر الأسود الشرقية (أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية)، انتقالاً إلى الضفة الغربية (أوكرانيا، القرم)، والضغوط على تركيا والعبور إلى المتوسط ثم انتشار غير مسبوق أمام شواطئه الشرقية، والطريق قد تمتد باتجاه شمال أفريقيا، في حال أوْكل ترامب لروسيا مهمة قتال داعش في ليبيا كما فعل سلفه في سورية. الأميركيون يلعبون بحسابات سطحية تخفف عنهم الأعباء فيما الأوروبيون يشعرون بالعداء الروسي يلتف عليهم ويهدد استقرارهم، وهو آخذ في إعادة ما فقده بعد انهيار الاتحاد السوفياتي.
مشكلة أوروبا مع روسيا لا يفقهها إلا الأوروبيون أنفسهم، فعندما اعتمد الرئيس ترومان مبدأه لاحتواء الاتحاد السوفياتي ركز انتشاره بدايةً في غرب أوروبا فيما صعّد ستالين ضغوطه على تركيا ودعَم حرب الشيوعيين في اليونان لينفذ إلى المتوسط، عندها أرشد الإنكليز الأميركيين إلى أخطار ذلك فتدخلو في اليونان للقضاء على ثورة الشيوعيين ودعموا تركيا ومنعوا ستالين من الوصول إلى المياه الدافئة. أوروبا الاستعمارية هي التي أرست قواعد الجيوبوليتيك في العالم وتعرف ماذا يعني انكشافها أمام الروس.
ترامب لا يرى هذه الأشياء، عينه على الحد من الأكلاف التي تتكبدها الولايات المتحدة فقط، لكن في ظل هذه المعمعة هل هناك فرصة يمكن أن يستغلّها النظام العربي انطلاقاً من وحدة الحال والهواجس التي تجمعه مع أوروبا؟
ربما اجل، لأن «عقيدة» ترامب تتيح قيام تكتلات إقليمية فيما إذا وجدت لنفسها وظائف ومهمات لا تزعج أو تعاكس توجّه الولايات المتحدة.
لكن حتى ذلك الحين فإن مدخل التوازنات القائمة في الشرق الأوسط يتركز في سورية التي تشهد توافقاً روسياً أميركياً حتى قبل أن يتسلم ترامب مفاتيح البيت الأبيض، وسيمر وقت طويل ليكتشف ترامب حقيقة النظام السوري وتبعيّته لإيران وعلاقته بنشوء المنظمات المتطرفة لكي يقتنع بأن كلينتون ليست مسؤولة بقدر بشار الأسد عن داعش. ورأيه بالمعارضة السورية المعتدلة يلتقي مع رأي بوتين لكنه لا يختلف كثيراً عن نظرة أوباما الذي استخف بها واعتبرها تتشكل من «بعض المزارعين وأطباء الأسنان الذين يفتقدون الخبرة ويعجزون عن التغلب على نظام الأسد».
وبالتالي فإن ترامب لن يكون أسوأ من أوباما في ما يتعلق بالمسألة السورية، أنما حتى أولوية محاربة داعش لدى ترامب يمكن النفاذ منها عبر تصعيد أدوار تركيا والأردن والمملكة العربية السعودية في سورية. وربما تتيح مراجعة رسم الأولويات في الإستراتيجية الأميركية المجال أمام العرب والأوروبيين لإعادة فرض الاهتمام بمنطقة الشرق الأوسط وحوض البحر المتوسط كونها سياسة تتعلق تقليدياً بتوجهات الحزب الجمهوري، بخاصة فيما لو استرجع المحافظون في البيت الأبيض أدوات عملهم التقليدي في القضايا الإستراتيجية التي تضعهم وجهاً لوجه مع المستشرقين في الكرملين الذين يشخصون بأعينهم نحو الحقبة السوفياتية.