إيران أول المستفيدين من سياسة ترامب في سورية

راغدة درغام – الحياة

حشد الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب مزيجاً من التأهب العالمي لمتابعة أخباره وقراراته وتعييناته قيادات الإدارة المقبلة، وبين فورة تفاؤل وصعود في أسهم بورصة نيويورك، وبين قلق عميق لدى شطر من الأميركيين وكثر غيرهم من احتمال ارتداد الولايات المتحدة عن قيمها ومبادئها ودستورها لتصبح عنصرية وإقصائية وطائفية. الواضح أن هذا الرجل المثير للجدل لا علاقة له بالملل. وواضحٌ أنه يتمتع كثيراً بلعبة السلطة ويتلذّذ جداً بإخفاء أوراقه ليترك العالم أجمع في حالة ترقب وتشوّق، وواضح أيضاً أنه وفريقه الأساسي أيقنوا أنه ليس في وسعهم إعادة اختراع منصب الرئاسة الأميركية، بل كان عليهم أن يستعينوا بأركان واشنطن التقليديين في المرحلة الانتقالية علماً أن الحملة الانتخابية كانت أساساً ضد واشنطن وأركانها التقليديين. دونالد ترامب الرئيس المنتخب خفّف من نبرة ترامب المرشح على صعد عدة من ضمنها التراجع عن محاكمة منافسته هيلاري كلينتون التي هتف بعضٌ من قاعدته الانتخابية تكراراً «احبسوها». هذا لا يُطبق على جميع وعوده الانتخابية إذ إنه، كمثال، أعلن اعتزامه الانسحاب من «الشراكة عبر الباسيفيك» التي وضعها الرئيس الحالي باراك أوباما بهدف تقوية النفوذ الأميركي في آسيا ضمن استراتيجية «بفيت» pivot أي تحويل المسار والأولوية من الشرق الأوسط إلى آسيا. أما ماذا في ذهن الرئيس الأميركي المنتخب نحو روسيا ومغامراتها الاستراتيجية في سورية وفي أوكرانيا، أو نحو إيران وتوسعها في الرقعة العربية بالذات في سورية، الأرجح أن يكون مزيجاً من المصالح الاستراتيجية الأميركية البعيدة المدى وبصمات شخصية يريدها دونالد ترامب أن تميّز عهده. الواقعية ستجبر الرئيس المنتخب على التفكير مرتين قبل أن يعقد العزم على بدء عهده بشراكة علنية مع جهاتٍ يتهمها حلفاء الولايات المتحدة الغربيون بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية تحت ذريعة القضاء على «داعش» إنما الهدف الأساسي هو إبقاء نظام بشار الأسد حليفاً دائماً في السلطة.

 

لا شك في أن دونالد ترامب سيستكمل ما يقوم به باراك أوباما في الموصل والرقة للقضاء على «داعش» وأمثاله. وربما تنتهي معركة الموصل قبل تسلم دونالد ترامب مفاتيح الرئاسة، وذلك بهدف حرمان «داعش» من أرض «دولة الخلافة». كان مفترضاً أن تقوم الولايات المتحدة بمهمة ضرب «داعش» في العراق وأن تتولى روسيا مهمة القضاء عليه في سورية. ما حدث هو أن روسيا حوّلت المهمة من القضاء على «داعش» إلى القضاء على المعارضة السورية المعتدلة التي تحارب على جبهتين: ضد «داعش» وضد نظام بشار الأسد. فروسيا وإيران، حليفتا الأسد، وجدتا فرصة لهما لتوطيده في السلطة من خلال استهداف المعارضة المعتدلة أولاً. راهنتا على عدم إقدام أوباما إما على منعهما ميدانياً وعسكرياً، أو تسليح المعارضة نوعياً، أو الاحتجاج جدياً على التجاوزات المرعبة لمحور روسيا – سورية – إيران بما فيها ارتكاب جرائم حرب، بموجب تعريف القانون الدولي، على نسق استهداف المستشفيات.

 

دونالد ترامب يرث عن باراك أوباما مأساة أخلاقية وإنسانية في سورية. لو انتهت الحرب لكان يمكن القول أن ترامب ليس مضطراً أن يتعاطى مع ما فعل أوباما – أو لم يفعل. لكن الحرب مستمرة، والانتهاكات تزداد، وسيضطر ترامب إما أن يسير على خطى أوباما، أو أن يعيد النظر تجميلياً، أو أن يقرر سياسة مختلفة تماماً.

 

تصريحات ترامب خلال الحملة الانتخابية أفادت بأنه وضع القضاء على «داعش» أولوية قاطعة وأنه جاهز للشراكة مع فلاديمير بوتين وبشار الأسد لتنفيذ المهمة، وحتى مع قاسم سليماني قائد «فيلق القدس» المطلوب دولياً، إذا تطلبت المعادلة الميدانية القبول بذلك كأمر واقع. مواقفه الانتخابية نحو إيران أفادت بأنه لن يسمح لطهران بالاستقواء، لا في المسألة النووية ولا في الهيمنة الإقليمية، وأنه ينظر إليها على أنها دولة راعية للإرهاب.

 

إذا نفّذ ترامب وعوده الانتخابية ودخل طرفاً في محور روسيا – سورية – إيران فإنه يكون قد دخل شريكاً مع محور متهم بارتكاب جرائم حرب ضد المدنيين في سورية، وثانياً، يدخل طرفاً في حرب أهلية في سورية بدعمه بشار الأسد، وثالثاً، يضفي الشرعية على «حزب الله» وميليشيات شيعية شكّلتها إيران للحرب في سورية، ورابعاً، يصبح حليفاً عملياً لإيران التي تخوض معارك مذهبية، وخامساً، يتورط مع تركيا ومع دول غربية في حلف شمال الأطلسي التي تشكك جذرياً في غايات روسيا في حربها في سورية، وسادساً، يبدأ عهده بوصمة إلغاء مبدأ المحاسبة على جرائم حرب وتوطيد أميركا كدولة تخلّت عمداً عن المسؤولية الأخلاقية إزاء المدنيين.

 

إيران ستكون في صدارة المستفيدين من تنفيذ دونالد ترامب وعوده الانتخابية في سورية، ذلك أنها ستصبح معفاة من المحاسبة بفضل شراكتها الميدانية في الحرب على «داعش». وللتأكيد، فإن القضاء على «داعش» ليس مشروعاً إيرانياً بل هو مشروع دولي بشراكة سنّية قبل أن تكون إيرانية. ذلك أن «داعش» تمكّن من فرض نفسه في العراق رداً على التجاوزات الإيرانية وتمكين الشيعة من التهام السلطة بإقصاء سنّة العراق. إيران كانت سبباً رئيسياً لبروز «داعش» وهي مصرَّة على المشاركة في سحقه لأن إلغاء «دولة الخلافة» الممتدة جغرافياً بين العراق وسورية هو إحياء لمشروع «الهلال الشيعي» الذي يربط إيران بالعراق وسورية ولبنان.

 

الجنرال ديفيد بترايوس أكثر العارفين بضرورة الشراكة مع السُنّة للقضاء على «داعش»، إذ إنه تمكَّن من ضرب «القاعدة» في العراق عبر تلك الشراكة. البعض يعتقد أن ذلك زاد صبّ الزيت على الحرب المذهبية السنّية – الشيعية وساهم في إنشاء البيئة لبروز «داعش». إنما حتى لو كان ذلك صحيحاً جدلاً، فإن الدرس هو ضرورة التنبه لإفرازات وتداعيات الظهور بأن الولايات المتحدة تتناوب على شراكة تارة مع السُنَّة وتارة مع الشيعة.

 

بترايوس يرى أن لدى الولايات المتحدة خياراً آخر غير ذلك الذي لمّح إليه المرشح دونالد ترامب وهو يدق في عصب العلاقات الأميركية – الروسية والأميركية – الإيرانية والأميركية – السورية. رأيه أن الانحناء أمام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أو بشار الأسد أو قاسم سليماني سيكون مكلفاً جداً للمصالح الأميركية الاستراتيجية، وأن الوقت حان للاعتراف بأن الكلام عن حلول سياسية في سورية هو للاستهلاك وأن الحسم العسكري هو سيد الساحة. عليه، ينطلق بترايوس من الإيضاح أن لا حاجة أبداً لتدخل عسكري أميركي بقوات أميركية على الأرض، وأن الخوف من مواجهة ميدانية أميركية – روسية في سورية في غير محله، بل هو تهويل وهراء. يقترح قصف المواقع العسكرية، حيث الطيران السوري الذي يقصف بالبراميل المتفجرة لشلّ قواه مع إبلاغ روسيا بأن تدخلها في هذه العملية هو الذي سيقود إلى مواجهة، وهو واثق في أن وضوح الإنذار سيجعل بوتين يفكر مرتين ويتراجع. رأي بترايوس أن الوقت حان لإحياء أميركا كقوة عظمى جاهزة للتصرّف طبقاً لمصالحها ومبادئها، وليست دولة عجوزاً خائفة ومترددة، ومصلحتها الآن تقتضي تغيير الموازين العسكرية في سورية وتسليح المعارضة المعتدلة وتفعيل التحالف الدولي بمشاركة روسية للقضاء على «داعش» وأمثاله داخل سورية كما داخل العراق.

 

حذف الخيار العسكري عن الطاولة أدى إلى إذلال أميركا وخلع الهيبة عنها كدولة عظمى. هذا رأي كثر من الجمهوريين الذين يبحث دونالد ترامب احتمال تعيينهم في مناصب مهمة في إدارته. ترامب نفسه يوافق على المبدأ على رغم كونه غير متحمس لمواجهة عسكرية مع روسيا أو غيرها. إنه مؤمن بضرورة استعادة أميركا عظمتها وموقعها الفريد عالمياً.

 

وضوح معاداة بعض الذين عينهم في مناصب مهمة نحو إيران ومعارضة بعض الذين ينظر في تعيينهم للاتفاق النووي مع إيران يجب ألا يفسّره الخليجيون بأنه سيشكل ضغوطاً تلقائية على السياسة الإيرانية الإقليمية، بالذات في العراق أو سورية أو لبنان. حنكة التفكير العميق في كيفية التأثير في السياسة الأميركية تتطلب الكف عن الاستنتاجات الآنية والاسترخاء. هذه الفترة فائقة الأهمية للتأثير في سياسات الإدارة المقبلة نحو الشرق الأوسط.

 

القمة الخليجية ستعقد في البحرين بعد أسبوعين وهذه فرصة استثنائية لصوغ رسائل رئيسية إلى إدارة ترامب لا تتوقف عند الترحيب المبطن برحيل أوباما أو الاحتجاج على مواقف ومشاعر العداء نحو المسلمين من جانب ترامب أو مستشار الأمن القومي أو غيرهما. لا حاجة للترحيب بما يُفسّر بأنه صرامة مع إيران ولا ضرورة لاشتراط رحيل بشار الأسد كأساس للشراكة الخليجية – الأميركية، في سورية أو في مواجهة الإرهاب. إعلان الحرب الكاملة على «داعش» وأمثاله هو في المصلحة الخليجية، إنما هناك حاجة لإعلان استراتيجية متكاملة في شأن الشراكة الجدية في هذه الأولوية الواضحة لإدارة ترامب كما في بناء علاقة جديدة بين الولايات المتحدة ودول مجلس التعاون الخليجي.

 

قد تشعر مصر بأنها مؤهلة أكثر من غيرها لعلاقة مميزة مع ترامب بعدما كان الرئيس عبدالفتاح السيسي بين أوائل الذين تلقى الرئيس المنتخب اتصال التهنئة منهم، حتى قبل رئيسة وزراء بريطانيا. قد تعتبر مصر أن العلاقة التهادنية التي يريدها ترامب مع فلاديمير بوتين تقع في مصلحتها لأنها على علاقة مميزة مع روسيا. وقد ترتاح كثيراً لمغادرة أوباما البيت الأبيض لأنها تعتبره أحد أهم مفاتيح صعود «الإخوان المسلمين» إلى السلطة وترتاح بالقدر ذاته إلى موقف ترامب من الإسلام السياسي الراديكالي الذي تعتبره عدواً لها. هنا أيضاً، تقتضي مصلحة مصر التريث وألا تفسّر استعداد ترامب للعمل مع الأسد لضرب الراديكالية الإسلامية بوابةً للشراكة الأميركية – المصرية. الأجدى بالسياسة المصرية أن تعمل على إعادة صوغ العلاقات الأميركية – المصرية كاستراتيجية منفصلة عن المواقف الانتخابية المعلنة في شأن سورية.

 

هناك جديد آتٍ أيضاً إلى الأمم المتحدة بتولي الأمين العام المنتخب أنطونيو غوتيريس المنصب مطلع كانون الثاني (يناير). فالأمين العام الجديد شخصية قيادية وبراغماتية وهو مهتم بالمنطقة العربية عموماً وسورية خصوصاً نظراً إلى معرفته الدقيقة بوضع اللاجئين كما بالنواحي السياسية والميدانية للأزمة السورية.

 

هذا الأسبوع عقد غوتيريس جلسة غير رسمية مع أعضاء مجلس الأمن بعيداً من الأضواء والغوغائية. كان لافتاً ما قاله أثناء جلسة التعارف عن سورية، وفق ما نقل عنه أحد السفراء الذين حضروا الجلسة. قال لهم بكل عفوية وصدق أن سورية كانت وراء سعيه وراء منصب الأمين العام لأن نزيفها مؤلم يجب أن يتوقف. دلالة هذا الكلام كافية. ومن المفيد للاستراتيجية العربية أن تبني على هذه الإشارة بفاعلية.

Comments (0)
Add Comment