عبدالباسط سيدا – الحياة
كنت في الثامنة حين زرت حلب للمرة الأولى بصحبة المرحوم والدي، وذلك في النصف الأول من الستينات. وما أذكره من تلك الزيارة أمران اثنان: الأول، «الحرس القومي» الذي أرعب الطفل الذي كنتُه عند حاجزه في مدخل المدينة، وذلك حين هاجم سيارة لم تأتمر بأوامره، وتعامل بفظاظة وحشية مع ركّابها. أما الثاني، فهو التلفاز الذي شاهدته للمرة الأولى.
وتطورت العلاقة مع حلب في المرحلة الجامعية. هذا على رغم أن دراساتي الجامعية كلها كانت في دمشق، لكنني كنت أمارس إلى جانب الدراسة العمل السياسي السري ضمن حزب كردي. وكان موقعي الحزبي يلزمني بالسفر المستمر إلى كوباني/عين العرب، وكان عليّ أن أسافر إلى حلب أولاً، ومن هناك إلى كوباني، بعد أن كنا نقطع الفرات على متن عبّارة، وفي ما بعد كنا نجتاز الفرات عبر الجسر الحربي في جرابلس، وذلك قبل فتح الخط الدولي عبر قره قوزاق.
وفي ما بعد أصبحتُ مسوؤلاً للمنظمة الخاصة بأعضاء حزبنا في جامعة حلب، الأمر الذي مكّنني من رؤية المدينة بعيون أخرى، وكانت لي لقاءات وصداقات مع بعض مثقفي المدينة.
ومع بداية دراستي الماجستير بإشراف استاذي الراحل الدكتور صادق جلال العظم، في ربيع 1979، التحقت بالجيش لأداء الخدمة الإلزامية، وتم فرزي كطالب ضابط مجند إلى مدرسة المشاة في المسلمية التابعة لحلب.
وخلال الدورة بنيت الصداقات مع الكثيرين من أبناء المحافظات الأخرى، بخاصة أبناء محافظة حلب، ممن كانوا يتدربون معنا. كما أن الزيارات التي كنا نقوم بها إلى حلب وكوباني وريف إدلب في الإجازات، كانت تساعدنا على اللقاء بالمواطنين، والتعرف إلى مجتمع المنطقة وواقعها من مختلف النواحي.
وأثناء وجودنا في مدرسة المشاة كانت مجزرة كلية المدفعية التي دبّرها النقيب ابراهيم اليوسف، وراح ضحيتها العشرات من طلاب الضباط المتطوعين. وقد سمعنا في ذلك الحين أن غالبيتهم كانوا من الطائفة العلوية، ما وضع البلاد أمام نقطة تحوّل غير مسبوقة.
ووجّه النظام التهمة بصورة مباشرة إلى جماعة الإخوان المسلمين التي تحوّل اسمها في إعلامه إلى «خوّان المسلمين». وما سمعناه في ذلك الحين أن تهديدات على أعلى المستويات وُجهت إلى أعيان حلب تجاراً ورجال دين، تنذرهم بأن أية مناهضة للنظام ستكون عاقبتها تدمير المدينة نهائياً. وما تناقله بعض الإخوة من زملائنا الحلبيين في ذلك الحين، كان ملخصه أن أبشع التهديدات جاء على لسان زهير مشارقة، ابن حلب، الذي قال وفق رواية الناقل: «سنقطع أية يد تمتد إلى الحزب (حزب البعث) حتى لو كانت يد الله». ويبدو أن مفتي السلطان، أحمد حسون، ابن حلب هو الآخر، يؤدي راهناً الدور ذاته، وإن بعبارات أخرى.
وتطوّرت الأحداث، وكانت مجزرة حماة في 1982، وكانت تفجيرات الباصات المتوجهة إلى المنطقة الساحلية، وكذلك تفجير قطار حلب- اللاذقية، وواجهت البلاد شبح الاقتتال الطائفي المقيت. ونجح النظام في إلصاق تهمة الإرهاب بجماعة الإخوان المسلمين، وتمكّن من شيطنتها بعد أن كان قد اصدر القانون 49، القاضي بإعدام كل منتسب إلى الجماعة.
وتجددت علاقتي بحلب في مرحلة الدكتوراه. فقد كان موضوع أطروحتي «من الوعي الأسطوري إلى بدايات التفكير الفلسفي النظري: بلاد ما بين النهرين تحديداً»، بإشراف استاذي الدكتور طيب تيزيني، يلزمني بالبحث عن المصادر والمراجع الخاصة بالموضوع في أي مكان، في دمشق وبيروت وحلب وغيرها. ووجدت في مكتبة المتحف الوطني في حلب، وكذلك في مكتبتها الوطنية، مصادر قيّمة استفدت منها، كما استفدت من معارف العديد من مثقفي المدينة، وشاركت في غير مؤتمر من مؤتمرات تاريخ العلوم عند العرب السنوية، تحت إشراف معهد التراث العربي العلمي في حلب.
وفي مرحلة ما بعد حماة، همّش حافظ الأسد حلب، وركّز على دمشق بهدف إحداث شرخ في المجتمع المديني السوري الذي يقوم أصلاً على المدينتين الرئيستين، وكانت أداته في ذلك المصالح الاقتصادية ونسج العلاقات بين أهل السلطة ورجال الأعمال الدمشقيين، بخاصة منهم حديثي النعمة، وكذلك قسم من رجال الدين الذين تجسّدت وظيفتهم في إبعاد شبهة الطائفية عن النظام، شأنهم في ذلك شأن أحزاب الجبهة «الوطنية التقدمية»، بما في ذلك الحزب الشيوعي بجناحيه البكداشي والفيصلي.
وظلّت حلب مهملة إلى حين توريث بشار. فكان الانفتاح اللافت على تجارها وصناعييها، بالتوازي مع تطوير العلاقات مع تركيا في عهد «حزب العدالة والتنمية»، وكل ذلك شكل بداية لافتة، كان من شأنها، وبالتكامل مع خطوات أخرى، إعادة قسط من التوازن إلى المجتمع السوري، بعيداً من الضبط الأمني القمعي الذي لم يكن سوى مجرد استقرار خادع طالما تغنّى به النظام.
لكن الأمور سرعان ما عادت إلى مداراتها المرسومة وفق حسابات مصالح الزمرة الحاكمة – المالكة. واصطدمت كل محاولات الإصلاح بحائط مسدود.
ومع الثورة، أصبحت حلب، بحكم ثقلها السكاني، ومكانتها الحضارية – الاقتصادية، ودورها الفاعل، ركيزة أساسية في الجهد العسكري المناهض للثورة، وكان ما كان.
لكن المرحلة تستوجب اليوم المراجعة النقدية المتأنية والموضوعية، البعيدة من الانفعال والتهرّب من المسؤولية. فنحن أمام مرحلة جديدة تستوجب نمطاً جديداً من التفكير، وقواعد أخرى للعمل.