تتجه أنظار السوريين مرة أخرى نحو جنيف حيث يفترض أن تعقد الجولة الثالثة من المفاوضات بين وفد النظام، ووفد، إن لم نقل وفود، المعارضة، وتحت إشراف أممي وبرعاية دولية – روسية النكهة في المقام الأول. أما جنيف 1 فغاب عنه السوريون، وكانت المباحثات بين الأطراف الدولية، بخاصة الجانبين الأميركي والروسي. وتم التوافق حينئذٍ على بيان جنيف 1 في حزيران (يونيو) 2012 المستند إلى خطة كوفي أنان ذات النقاط الست المعروفة. وهو البيان الذي تحفظنا عليه في حينه، لتضمنه نقاطاً عدة غامضة، وأخرى لا تمتلك أية قابلية للتحقق في ظل غياب إرادة أميركية فاعلة للتعامل مع الموضوع بحزم وفاعلية، وعدم وجود أية رغبة روسية في التخلي عن التحالف مع نظام بشار، طالما أنه يمنحها ورقة قوية في المعادلات الإقليمية والدولية.
فدور الأسد في مستقبل سورية كان العقدة الأساسية، وما زال. وقد تعامل معه بيان جنيف 1 بموجب عقيدة الغموض «الخلّاق» الذي يبيح لكل طرف تفسير الموضوع وفق حساباته الخاصة. كما أن تشكيل هيئة الحكم الانتقالي بكامل الصلاحيات وبموافقة الطرفين كان، وما زال، عصياً على أي تطبيق واقعي، لا سيما في ظل انعدام إرادة دولية ملزمة، ومن الجانب الأميركي تحديداً. ومع تيقّن الروس من هشاشة الموقف الأميركي على صعيد دعم المعارضة، بخاصة بعدما قفز أوباما من فوق الخط الأحمر الذي كان قد أعلن عنه وحدّده بنفسه، بدأوا بالترويج لفكرة تمحورت حولها استراتيجيتهم منذ البداية، وهي أن ما يهدد السوريين جميعاً، معارضة وموالاة، هو الإرهاب، ولمواجهته لا بد أن تتضافر جهود الجميع. هذا ما حاول الروس تمريره في جنيف 2 وجنيف 3. ولمّا أخفقوا في تسويق الموضوع عبر جنيف، لاذوا بأسلوب صناعة المعارضات في حميميم وآستانة وغيرهما لإجهاض مخرجات مؤتمر الرياض للمعارضة أواخر 2015 الذي عُقد بناء على توافق دولي في اجتماع فيينا.
عمل الروس بالتوازي مع تدخلهم العسكري إلى جانب النظام، على استغلال الانهيارات والخلافات والصراعات بين الفصائل المسلحة الميدانية المعارضة، كما استثمروا في متغيرات أولويات السياسة التركية، بخاصة بعد الانقلاب الفاشل. وبدأوا بنسج العلاقات مع العديد من تلك الفصائل. ثم كانت اللقاءات المعلنة بين الفصائل المعنية والجانب الروسي في أنقرة. كل ذلك مهّد الطريق لاجتماع آستانة الذي جمع ممثلي بعض الفصائل المسلحة ووفد النظام. وكان واضحاً أن الأخير شارك في الاجتماع مرغماً بضغط روسي للاستفادة من نتائج السيطرة على حلب. ومع إدراك الجانب الروسي استحالة ترتيب الأوضاع في سورية لمصلحته من دون دور فاعل أميركي، ومشاركة عربية مؤثرة، وذراً للرماد في الأعين، كان التأكيد بأن آستانة مجرد محطة تمهيدية، تركز على وقف إطلاق النار، واعتماد آلية بين الدول الثلاث، روسيا وتركيا وإيران، للتحقق من التزام مختلف الأطراف بوقف إطلاق النار. أما الهدف الأبعد روسياً من آستانة فإحداث الشرخ بين الفصائل العسكرية والهيئة العليا للمفاوضات من ناحية، وبين الفصائل أنفسها من ناحية ثانية، وذلك في إطار الاستراتيجية الروسية لتفتيت المعارضة وتطويعها، تمهيداً لإعادة تشكيلها، أقله إبان استفرادها بالملف السوري.
وفي المقابل، يبدو أن الأمور على الضفة الأميركية بدأت تتبلور ملامحها بعض الشيء، ما يُستشفّ من حوادث وتحركات وتصريحات عدة لعل أبرزها استقالة مستشار الأمن القومي مايكل فلين على خلفية اتصاله بالروس، ويبدو أن الأمور لن تقف عنده بل ستشمل آخرين بهذه الصورة أو تلك. إلا أن الجوهري أننا سنشهد تشدداً أميركياً في التعامل مع روسيا، وبالتالي لن تترك المفاتيح كلها للكرملين، ليتحكّم بقواعد اللعبة وفق حساباته ومصالحه.
في هذه الأجواء، تجرى الاستعدادات للجولة الجديدة من مفاوضات جنيف التي لن تتميز عن الجولتين السابقتين، بل لن تخرج عن كونها مجرد حركة للإيحاء بوجود رغبة دولية في دفع الأطراف السورية للتوصل إلى حلٍ توافقي ينهي الصراع، ويمهد الطريق لانتقال سياسي غير واضح المعالم، قابل للتأويل بألف صيغة. وهذا ما يستنتج منه أن الأمور لم تصل بعد بين الأطراف الدولية والإقليمية المعنية إلى تفاهمات نهائية، أو أن الأمور ما زالت قيد المشاورات والأخذ والردّ. ويُشار ضمن هذا السياق إلى جولة مدير السي. آي. أي. مايك مومبيو ورئيس الأركان الأميركي جوزيف دانفورد إلى المنطقة، ما يشير إلى أن القضايا المتصلة بالجانب الأمني والعسكري في الملف السوري هي التي تُبحث راهناً، تمهيداً لقرار سياسي يضع النقاط على الحروف. وما يُستدل من المعطيات المتوافرة أن الجولة القادمة من جنيف لن تكون مؤهلة لإحداث خرق في هذا الاتجاه أو ذاك، بل سيستمر الطرفان في موقفيهما، مع إدراكهما أن الأمور الأساسية تُبحث في مكان آخر.
الاتصالات والتحركات والوقائع تعطي انطباعاً مفاده بأن المرحلة القادمة ستشهد تثبيتاً لمناطق النفوذ بين مختلف الأطراف المتصارعة، انتظاراً لما سيسفر عنه المستقبل. روسيا في عجلة من أمرها. تريد تأمين حصتها من «المولد» السوري، لكنها تدرك أنها لا تستطيع بلوغ ذلك من دون تنسيق مع الجانب الأميركي، وتفاهم مع الجانب الإسرائيلي بطبيعة الحال. كما أن تحالفها مع إيران يسجل لها وعليها. فهي في حاجة إليها تحسباً لأية مفاجآت مع الجانب الأميركي، وتدرك في الوقت عينه أن العلاقة المتميزة مع طهران لن تفيدها كثيرا، بخاصة في رفع العقبات أمام علاقات متميزة تريدها مع تركيا ومع السعودية ودول الخليج.
أما تركيا، فتريد إفهام الحليف التقليدي، الولايات المتحدة، ومعها دول الناتو بأنها ليست ضعيفة، بل تمتلك البدائل، لكنها لا تستطيع المغامرة أو المقامرة بعقود من العلاقات الاستراتيجية مع الغرب، ومن التواصل النفسي معه، إلى جانب الحجم الكبير للمصالح الاقتصادية وتداخلها. هكذا، فجنيف هذه المرة لن تكون استثناء، ولا محطة جديدة في الملف السوري، بل مجدداً فرصة للاستكشاف وكسب الوقت.