عبد الباسط سيدا
ستة أعوام مرّت منذ الانطلاقة الأولى للثورة السورية، والآفاق ما زالت رمادية، بل حالكة. وكّلف ذلك السوريين ما يتمرّد على التحديد والتقدير من التضحيات والآلام.
ثورة بدأت سلمية مدنية؛ شارك فيها السوريون من مختلف المكوّنات بفاعلية غير مسبوقة؛ وتمكّنوا بمطالبهم المشروعة؛ واصرارهم على ضمان مستقبل أفضل للأجيال السورية المقبلة من زعزعة أركان المجموعة المتسلّطة على الحكم في سورية، وهي مجموعة أساسها تحالف الاستبداد والفساد. وجميعنا يتذكر منظر بثينة شعبان وهي تقدّم “حزمة الاصلاحات” بطريقة هيستيرية، تفصح عن حالة الرعب المهيمنة على المجموعة الفاسدة المتسلطة.
مرّت الثورة السورية بمراحل مختلفة نتيجة تشابك جملة من العوامل، منها داخلية، ومنها إقليمية ودولية. وسنتناول هنا البعد الداخلي الذي أدى إلى الوضعية التي نعيشها راهناً. أما في ما يتصل بالبعدين الإقليمي والدولي، فما نعتقده هو أن الأمور قد باتت بالنسبة إليهما أكثر وضوحاً للجميع. فالمظاهرات الأولى التي انطلقت في دمشق ودرعا وحمص وحماة وغالبية المدن السورية بما فيها الكردية، كانت تطالب بالإصلاح عبر رفع حالة الطوارئ، وإلغاء المادة الثامنة من الدستور، وهي المادة التي كانت تنص على أن حزب البعث هو القائد للدولة والمجتمع. ولتمهيد الطريق أمام اصلاحات حقيقية على مختلف المستويات، تضمن مشاركة السوريين جميعاً على اختلاف انتماءاتهم بصورة فعلية في القرار السياسي. وتوفّر لهم مقومات حياة حرة كريمة، لا مكان فيها للخوف من الفقر والمرض والجهل على مستقبل الأجيال.
كان السوريون، حينذاك، يطالبون بالعدالة عبر الإصلاح. لم تكن لديهم أية دوافع انتقامية. ولم يكن لدى أي فريق منهم اعتراض على أن يقود بشار الأسد بنفسه الجهود الإصلاحية؛ ولكن الزمرة الخفيّة بقيادة بشار، المتحكّمة بمفاصل الدولة والمجتمع، وجدت أن ما يجري ليس سوى “زوبعة في فنجان”، واعتقدت أن المزيد من القمع والقتل سيرغم السوريين على العودة إلى بيت الطاعة والقبول بوضعية القطيع.
واستمرت تلك الزمرة الحاكمة في القتل والتدمير، حتى تحوّلت في نهاية المطاف إلى مجرد أداة في لعبة الصراعات الدولية والإقليمية، وتسببت في تدمير البلد، وتشريد الشعب، وقتل مئات الآلاف، وتغييب وتعطيب أكثر من مليون إنسان. ناهيكم عن المشكلات الاجتماعية الكبرى التي سيواجهها السوريون على مدى عقود قادمة.
من جهة هيئات المعارضة التي حصلت على الاعتراف الدولي بوصفها تمثّل الثورة، بدءاً بالمجلس الوطني السوري، ومروراً بالائتلاف، ووصولاً إلى الهيئة العليا للمفاوضات، فإنها لم تتمكن من قيادة الثورة كما ينبغي. واكتفت بمشروعية التمثيل عبر الاعتراف الدولي من دون الشعبي. ولسنا هنا بصدد اجراء جردة حساب عام بخصوص أخطاء المعارضة السورية، وهي كثيرة من دون شك، ولكنها لا تعطينا بأي حال من الأحوال الذريعة لتسويغ جرائم النظام عبر خلط الحابل بالنابل؛ وإنما نود التوقّف عند ثلاثة أمور تفرّخت عنها مجمل السلبيات اللاحقة، منها:
عدم وجود أحزاب قوية قادرة على رسم الخط السياسي، واتخاذ القرار والموقف المناسبين في الوقت المناسب. وأدّى هذا الأمر إلى طغيان العمل الفردي العشوائي، وسعي كل فرد أو مجموعة إلى انتزاع المشروعية عبر أعمال فردية، متعارضة متناقضة؛ ما أدّى إلى تبديد الطاقات، وبروز جملة ثغرات استغلها المستلّقون الذين مارسوا نخراً وتخريباً في الجهد المعارض. وأقام العديد من هؤلاء العلاقات مع القوى المتطرفة، لتعزيز مواقعهم ضمن المعارضة، والإيهام بأنهم يمتلكون قوة على الأرض تمنحهم مشروعية تسلم المواقع القيادية ضمن المعارضة؛ وكانوا يعرقلون مراراً الجهود الرامية إلى تحديد موقف واضح من الجماعات المتطرفة مثل “داعش” و”جبهة النصرة”. وشكّل هؤلاء الظاهرة التي سميناها أكثر من مرة بـ “الداعشية المقنعة”. ورغم كل الجهود التي بُذلت ضمن نطاق المجلس الوطني السوري، في محاولة تلافي هذا النقص، إلا أن النزعات الفردية هيمنت في نهاية المطاف؛ وأرغم المجلس، بفعل ضغوط دولية، على الانتقال إلى مرحلة “الائتلاف”، التي تمثّل بداية خروج زمام المبادرة بصورة شبه نهائية من أيدي السوريين في المعارضة.
القراءة الخاطئة لطبيعة تفاعلات المعادلات الإقليمية والدولية مع الوضع الداخلي السوري. ونحن جميعاً نتحمّل هذه المسؤولية. فقد اعتقدنا أن الأمور ستحسم سريعاً لصالح الشعب السوري؛ وأن الربيع المنتظر بات واقعاً؛ وأن المجتمع الدولي، الغربي تحديدا، اعتمد استراتيجية دعم دمقرطة مجتمعات المنطقة، لتتمكّن من مواجهة التحديات بنفسها، عوضاً عن أن تكون عالة على غيرها. كما اعتقدنا أن الغرب أدرك بأن المصادرة على التطرف والإرهاب، ستكون عبر رفع الغطاء عن الأنظمة الاستبدادية التي كُلفت من قبله بمهمة ضبط الأوضاع، مقابل اطلاق يدها في الدولة والمجتمع.
ومن نتائج هذه القراءة الخاطئة؛ التعامل مع موضوع التغيير السياسي من جانب قيادات المعارضة بعقلية اتكالية سلبية. وكان الاعتقاد بأن الأمور ستتغيّر حتماً؛ وأننا لسنا سوى واجهة تمثيلية، تؤدي دوراً وظيفياً لا قيادياً، ريثما ننتقل إلى مرحلة سقوط النظام، وعقد المؤتمر الوطني السوري العام، الذي ستنبثق عنه هيئة مهمتها كتابة دستور يكون أساساً، بعد الاستفتاء الشعبي العام عليه، لانتخابات نزيهة حرة بإشراف دولي، يكون حصيلتها برلمان منتخب، يشرف على من سيكلف بتشكيل الحكومة، ويشرف على عملها، ويتابعها بالمساءلة والمحاسبة. هكذا كانت الصورة أو القراءة؛ ولذلك لم تبذل الجهود المطلوبة للاستفادة من طاقات السوريين الهائلة في المهاجر والمخيمات. كما أن العلاقة مع القوى الميدانية كانت هشة هلامية، وكانت العلاقة معها بعقلية “المتعهدين”، الأمر الذي افقد مؤسسات المعارضة الحاضنة الشعبية الفاعلة، وحرمها من الخبرات والطاقات، وفتح المجال أمام كل التدخلات الإقليمية والدولية، وباتت قوى التشدد والتطرف هي سيدة الموقف في الميدان العسكري.
عدم القدرة على القطع مع المنظومة المفهومية لحزب البعث، ومنظومة الاستبداد عموماً. وكان من الواضح منذ اليوم الأول أن استراتيجية النظام تقوم على أساس إبعاد العلويين والكرد والمسيحيين والدروز عن الثورة، وبأي شكل من الأشكال؛ ليتمكّن من ترويج لخرافة مفادها بأن ما يجري في سورية هو صراع بين “النظام العلماني حامي الأقليات” والتطرف الإسلامي، الإرهابي الذي يستمد قوته من المكون العربي السني تحديداً. ونبّهنا إلى هذا الأمر مراراً وتكراراً، وطالبنا بالانفتاح على تلك المكوّنات، وإقامة الحوار معها، بغية التوافق على قواسم مشتركة، تكون أساساً لدستور سوري جديد، يضمن حقوق الجميع، على قاعدة احترام الحقوق والخصوصيات. وشدّدنا كثيرا على أهمية الملف الكردي، لإطلاعنا العميق والواسع عليه، وادراكنا بأن النظام سيعمل بخبث كبير من أجل اخراج الكرد من معادلة الثورة السورية؛ وتهديد تركيا بالورقة الكردية حتى تكفّ عن دعمها للثورة والشعب السوري بمختلف الأشكال. ولكن الكثير من الاخوة في قيادة المعارضة لم يتمكّنوا من التحرر من هواجسهم وعقدهم القديمة؛ وظلوا مستمرين في توجهاتهم السابقة، غير مدركين أن المرحلة الجديدة باتت تستوجب التركيز على المشروع الوطني السوري، الذي لا بد أن يطمئن السوريين جميعاً، وضرورة القطع مع المشروع الايديولوجي القوموي. وأسهمت جملة التصريحات اللامسؤولة التي صدرت عن قيادات في المعارضة، وأخرى ممثلة لها، في إثارة توجس الكرد من مشاريع المعارضة. كما أن المسارعة إلى إدانة خطوات حزب الاتحاد الديمقراطي بخصوص “الإدارة الذاتية”، ومشروع “الفيدرالية”، وعدم ادانة مشروع “دولة” (داعش وجبهة النصرة) في الوقت ذاته، كان من الأمور التي أثارت الكثير من الأسئلة حول مدى صدقية المعارضة، وأهليتها لتحمّل أعباء مشروع وطني لا يستقيم من دون طمأنة كل السوريين، دون استثناء. كان الموقف البراغماتي هو السائد في ميدان التعامل مع الموضوع الكردي. في حين أن الموقف الوطني السليم كان وما زال يستوجب التعامل مع القضية الكردية بوصفها قضية وطنية ديمقراطية، تخص مكوناً أساسياً من المكونات السورية، تعرّض على مدى عقود لاضطهاد مزدوج، تمثّل في حرمانه من حقوقه القومية الديمقراطية المشروعة من جهة، وتعرضه في الوقت ذاته لحزمة من المشاريع التمييزية العنصرية التي استهدفت وجوده القومي بمختلف الأشكال.
الثورة السورية لم تنته، رغم أنها تمر بأصعب مراحلها. والشعب السوري ما زال يتطلع نحو مستقبل أفضل يضمن له الحرية والكرامة والعدالة. ولكن المرحلة تقتضي اجراء مراجعة نقدية صارمة، بغية الوقوف على أسباب الخلل، وتحديدها بشجاعة وحكمة؛ والعمل على تلافيها، ومعالجها تبعاتها.
وتجدر الإشارة في هذا المجال إلى حوارات كثيرة قد تمت ضمن اطر المعارضة وخارجها، شارك فيها سياسيون ومثقفون وفعاليات مجتمعية من مختلف المكونات السورية. وما زالت هناك لقاءات منتظرة؛ كل ذلك يعزز التفاهم، ويمكّن من التوافق على قواسم مشتركة تؤسس لوطنية سورية، تستمد مشروعيتها من احترامها لكل المكوّنات، وتعتمد الشكل الإداري المناسب، أو الأشكال الإدارية المناسبة، الذي يمكّن جميع السوريين من المشاركة في بناء مستقبلهم، وإدارة دولتهم، التي لا يمكن أن تقوم وتستمر ما لم تكن بالجميع وللجميع.