الكرد السوريّون: سؤال الهويّة والانتماء

هيثم حسين

يظهر دور الأدب والثقافة والفكر كرباط جامع لبلورة هوية وطنية، في ظل تنامي الدعوات العنصرية لتفتيبت أبناء الوطن بين قواقع مقيّدة بانتماءات ضيّقة، تقتصر على عصبية دينية أو قومية أو طائفيّة، بحيث تتمّ التضحية بالحالة المنفتحة للهوية الوطنية، لصالح الافتئات عليها من قبل مَن يتحصّنون بقيودهم ويشرعونها كشعارات حامية لهم، ولمن يزعمون أنّهم يمثّلونهم في لعبة المخادعة والإيهام والتضليل.

 

بالنسبة للحالة السوريّة لعبت السياسة الخبيثة التي اتبعها النظام الحاكم لعقود دوراً هدّاماً في نسف بنية الانتماء الوطنيّ، وكان المسعى لإبقاء الناس بعيدين عن بعضهم بعضاً، مَحوطين بالشكّ والريبة والخوف من بعضهم، ينظر كلّ منهم إلى أخيه باعتباره “آخر” ينبغي التحوّط منه وأخذ الحذر، ما يبقي فجوات تتّسع بالتقادم، وتخلق حالة استعداء وكراهية بعيداً عن جوهر المنشود من تآخٍ وتعاون من أجل الانطلاق نحو غدٍ مأمول يستحقّ توصيفه واسمه وانتماءه لوطن لكلّ أبنائه.

 

كان التمييز في سوريا مرتكزاً على قاعدة فكريّة استمدّت ديمومتها من ممارسات وضعت شعارات عريضة لتخفي عورات كثيرة عبرها، فالزعم بـ”أنّ مَن يعيش على الأرض العربيّة هو عربيّ”، ألغى الثراء الإنسانيّ في البقعة الجغرافيّة التي تنهض على أسس حضارات متعاقبة عليها متراكمة في طيّات تاريخها، حيث سادت عدّة إمبراطوريات عبر الزمن، وبقي لكلّ منها آثارها الدالّة عليها، ومن شأن ذلك أن يمثّل غنى يمنح صوراً متمايزة تصبّ بمجملها في بلورة صورة وطنيّة نموذجيّة، لكن ما جرى من سلوكيات احتكاريّة باسم الأحاديّة القوميّة ألغى التمايز، وسعى إلى الهيمنة وصهر الآخر في بوتقة صغيرة لا تصلح كوعاء جامع مانع، ما خلق إرباكاً ألقى بتداعياته وظلاله على مجمل جوانب الحياة الاجتماعيّة والاقتصاديّة، والثقافيّة والأدبيّة.

 

في سوريا التي تعايش فيها جميع أبنائها فيما بينهم بعيداً عن الاستعداء والاحتراب والإلغاء، ظهرت على السطح، حالات قهر الآخر المختلف والسعي إلى تغريبه عن الانتماء الوطني، بالتشكيك به، ودفعه إلى زاوية ضيقة يضطرّ فيها للدفاع عن نفسه ضدّ التهم الدائمة الموجّهة إليه بشكل أو آخر.

 

بتخصيص الحالة أكثر، والحديث عن الهويّة الوطنيّة بالنسبة للكرد السوريّين، يمكن أن يلاحظ المتابع أن مشاركة الكرد في الحياة الثقافية والفكرية في البلد لم تقتصر على البقاء كمتفرّجين، بل كان الانخراط في الشأن الثقافيّ، والمساهمة في الحراك الفكري والثقافي بما يثري اللوحة الوطنية، بعيداً عن الإقصاء والتهميش.

 

بمراجعة تاريخيّة للواقع السياسيّ الذي أفرز حالات ثقافية وردود أفعال، جاء بعضها انفعالياً، يمكن التوقّف عند نقاط هامّة في التاريخ الحديث في البلد. فقد تعرّض الكرد في سوريا، في ظلّ نظام البعث، ومن قبله نظام الوحدة، إلى سلسلة من الإجراءات التمييزيّة بحقّهم، تلك التي كانت تشكّك دوماً بانتمائهم إلى الوطن السوريّ، وولائهم له، وتسعى إلى إبقائهم متّهمين بالولاء لدولة أخرى، أو الإدانة على الأحلام بإنشاء دولة قوميّة؛ كردستان التي تظلّ حلم الكرد المتجدّد، بحيث أنّ الظنّ والتخمين حلّا محلّ الوقائع والحقائق، وأصبح الكرديّ في نظر النظام موضع المشكوك بأمره في حلّه وترحاله.

 

لم تقتصر الممارسات القمعيّة والإجراءات التعسّفية بحقّ الكرد في منحى من مناحي الحياة، بل طالت مختلف المجالات، لدرجة هدّدت وجودهم، ودفعت عشرات الآلاف منهم إلى الهجرة عن بلدهم، لأنّهم كانوا يشعرون بالاغتراب فيه، ناهيك عن الاستلاب الدائم المتجدّد الذي كانوا يقعون في فخاخه، وذلك بالتزامن مع محاولة تجريدهم من الشعور الوطنيّ، وتأكيد النزعة الانفصالية عليهم، ودفعهم إلى أقاصي التطرّف في تعاطيهم مع إخوتهم السوريّين.

 

لا يخفى أنّ السوريّين جميعاً تعرّضوا، وما يزالون، لشتّى صنوف العذاب والإذلال من قبل نظام الأسد، الذي احتكر الوطنيّة في نفسه، وسعى إلى تكريس الانقسامات وتعميم الأحقاد والضغائن، مستعيناً بالسياسة الاستعماريّة الاغتصابيّة المتمثّلة في التفتيت والتدمير للسيطرة وإدامة التحكّم واستكمال النهب، لكنّ التعذيب الذي تعرّض له الكرديّ كان أشدّ مرارة، كان مركّباً يجرّده من وجوده نفسه.

 

لم تلتفت “النخب” الفكريّة والثقافيّة إلى التنوّع الحضاريّ والفكريّ والثقافيّ في البلاد، ولم يكن تطعيم بعض الروايات بأسماء كرديّة أو غيرها، أو التذكير بالشمال كواقع مختلف، كافياً للتقرّب من الأخ في الوطن، ويعتبر هذا تقصيراً بحقّ الهويّة الوطنية قبل الأخ في الوطن نفسه.

 

لعلّ البحث عن تبريرات للمثقّفين والمفكّرين ينصبّ في خانة استدراج التاريخ وتأويله رغبويّاً، دون أن يعني ذلك إعفاءهم من واجباتهم الإنسانيّة، وبعيداً عن التماس الأعذار وإيجاد الذرائع، لم تحظَ صورة الهوية الوطنية بتلويناتها وتكويناتها باهتمام باحثين سوريّين كما يجب، وظلّت موضوعاً ثانويّاً يورد في سياقات ثانويّة على هامش الحديث عن ضرورة التخلّي عن العصبيّات القوميّة، وإن كان ذلك مندرجاً في إطار التعصّب ذاته، لكن عبر خطاب ثقافيّ فكريّ يزعم التحضّر والمعاصرة.

 

حرص النظام على خلق فجوات تتّسع باطّراد بين الكرد وغيرهم من مكوّنات الوطن السوريّ، وسعى إلى بثّ الخلافات، بحيث يبقى هو المرجع الوحيد للجميع في ظلّ تناحرهم وتعاديهم وتباغضهم. واستدرج بعض الكرد إلى طرفه، سواء بالترغيب أو الترهيب.

 

عند انطلاق شرارة الثورات العربيّة، تحسّس النظام الخطر، سارع إلى التخفيف عن ممارساته الإجراميّة وفكّ بعض القيود التي أثقلت كاهل الكرد، فسمح ببعض الأمور البسيطة، في محاولة منه لتخفيف الاحتقان، لأنّه كان يرى الكرد نقطة مرشّحة للتفجّر وبؤرة خطر عليه، لذلك حاول التحايل على الكرد وتقييدهم مرّة أخرى.

 

وحين بدأت التظاهرات في سوريا، في دمشق ودرعا، التفت النظام إلى الكرد، وحاول استدراجهم إلى شراكه من جديد، أصدر بعض القرارات التي من شأنها إعادة بعض الحقوق المستلبة، أصدر قانون الجنسية، وحصل بموجبه كثيرون من المجرّدين من الجنسيّة على الهويّة السوريّة. لكن ذلك لم يمنع من خروج التظاهرات وتنامي الاحتجاجات في مختلف المدن، ورفعت شعارات تتضامن مع درعا، وكان الردّ بلافتة “مطالبنا: حريّة، وليست جنسيّة”، من عامودا التي اشتهرت بلافتاتها في الثورة السوريّة مع كفرنبّل.

 

لعب النظام على وتر الاستعداء الذي لم يهمله أو يتركه، أعاد تفعيله وتجديده، فبعد أن كان يحاول إبراز الكرد على أنّهم انفصاليّون ويشكّك بوطنيّتهم وولائهم دوماً، وكان يزرع الشقاق بذلك بينهم وبين إخوتهم السوريين من مختلف المكوّنات، بدأ طريقة جديدة في الاستعداء وزرع الشكوك.

 

لم يخلُ اجتماع للمعارضة أيضاً من الجدل البيزنطيّ الدائر حول حقوق الكرد في سوريا، وطريقة التعاطي معهم، ولم يقف الأمر عند الخلاف الذي تعمّق وأظهر كثيراً من التراكمات على السطح، الخلاف على اسم “الجمهوريّة العربيّة السوريّة” أو “الجمهوريّة السوريّة”، والانتقال إلى اصطفافات واتّهامات متفرّقة، كانت حصيلة جهد ومثابرة وتصميم النظام على التفتيت وزرع لتشكيك بين مختلف السوريّين.

 

كما لم يخلُ جانب المعارضة من رؤى شوفينيّة تحمل إرث البعث العنصريّ بحقّ الكرد، وتعيد التشكيك بولائهم وانتمائهم لبلدهم سوريا، وتطلق الاتّهامات جزافاً هنا وهناك، وتتعامل بدورها بفوقيّة تشبه فوقيّة المخابرات قبل الثورة وتعيد إلى الأذهان تلك النظرة الاستعلائيّة من عناصر الحزب الحاكم وأجهزته القمعيّة.

 

البيت الكرديّ نفسه بدا متصدّعاً بدوره، كالبيت الداخلي للمعارضة السوريّة، فبينما المنطقة غارقة في الاحتراب والتطاحن، إذ يلتهي فيه كلّ مكوّن بالاستعداد لمواجهة الآخر، وذلك بترتيب استعدائيّ، حيث يعود إلى خطوطه البدائيّة ليتحصّن في مواجهة الخصوم المحتملين – وهم كثر بالنسبة لكلّ طرف- في هذه المعمعة المستمرّة يطلّ الكُرد بصراعاتهم وخلافاتهم التي لا تنتهي، وذلك على هامش الأحداث الكبرى التي تعصف بالمنطقة، ودون أن يلفت تناحرهم اهتمام الآخرين، إلّا بالقدر الذي يتمّ تأجيجه لصالح قوى مستفيدة تحرص على إبقاء نيران الخلافات مستعرة، ترشّ عليها بعض الوقود بين الفينة والأخرى بحسب التوتّرات والسياسات والمصالح.

 

لا يخفى أنّ الثورة السوريّة أعادت إلى الكرديّ السوريّ الانتماء الوطنيّ الذي سعى النظام إلى تجريده إيّاه، وأكّدت له أنّ حلمه المنشود يكون متجسّداً ومتجلّياً مع أخيه الكرديّ والسوريّ معاً.

Comments (0)
Add Comment