عبد الباسط سيدا – الحياة
تناولت نظريات كثيرة أصل فكرة الدولة وطبيعتها، ووظيفتها، وضرورتها، وتوقفت عند العوامل التي ساعدت على ظهورها، وساهمت في بلورة مهامها، وتحديد علاقتها مع التابعين لها.
ومن الملاحظ أن القاسم المشترك بين تلك النظريات والأمثلة الواقعية الكثيرة من مختلف العهود، وصولاً إلى مرحلتنا المعاصرة، يتمثّل في العامل الاقتصادي بالدرجة الأولى. ويتجلى ذلك على مستويين: مستوى الدولة ككيان مجتمعي بشري، ومستوى الدولة ككيان سياسي.
فعلى الصعيد المجتمعي، لا بد من أن يكون للبشر الذين ينضوون تحت لواء دولة ما مصلحة في نشوئها واستمراريتها، وإلا فإنها ستتعرض للأزمات والتمزقات، بل والزلازل، وذلك مع انحسار وهج الايدلولوجية المؤسسة التي تصلح لأن تكون المعادل المعاصر لمفهوم العصبية عند ابن خلدون. أو لدى غياب المؤسس الكاريزماتي الذي تمكّن من هندسة الكيان، سواء بنفوذه المعنوي الروحي، أم بسطوته وتسلطه. أما على مستوى الكيان السياسي الإدراي، فالدولة تحتاج إلى دخل اقتصادي يغطي نفقات أجهزتها ومؤسساتها التي تؤدي أدواراً مختلفة اقتصادية وإدارية وقمعية، وكل ذلك يعتمد على الفلسفة العامة التي توجه قيادة الدولة. ولكن في جميع الأحوال تظل المصالح الاقتصادية للناس العامل الأهم في نشوء الدولة واستمراريتها، وتطورها.
وفي العصر الحديث، وفي مرحلة ما بعد الاستعمار المباشر تحديداً، ظهرت جملة من الكيانات السياسية، سواء في أفريقيا وآسيا، أم في أميركا اللاتينية، وحتى في أوروبا في مرحلة ما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي والاتحاد اليوغوسلافي، وذلك بناء على تقاطعات مصالح الدول الكبرى التي تمكنت بفعل نتائج الثورة الصناعية، وما بعدها من ثورات في ميادين الأتمتة والمعلومات والعولمة، من التحكّم بمقدرات ومصائر شعوب كثيرة في العديد من المناطق، وساهمت في تشكيل كيانات سياسية تخدم اقتصاداتها من جهة تأمين المواد الخام، وأسواق التصريف، وتأمين الطاقة البشرية الإنتاجية.
وإذا انتقلنا إلى الحالة الكردية، والحلم المشروع الذي يجسّد رغبة الكرد في الدولة المستقلة، بخاصة في أجواء المناقشات الحامية الدائرة حول الاستفتاء في إقليم كردستان، لمعرفة آراء سكانه بصدد العلاقة مع بغداد، نرى أن المشاعر أو العصبية القومية، على رغم أهميتها، بل ضرورتها، ليست كافية لإقناع الناس بفكرة الدولة الكردية المستقلة في ظل غياب المصلحة الاقتصادية المشتركة، أو على الأقل الشعور بها، والعمل لبلورتها وتطويرها.
ولا نجانب الصواب إذا قلنا إن غياب هذه المصلحة أحد العوامل الأساسية التي ساهمت في عدم تشكل دولة كردية مستقلة، تتجاوز حدود الإمارة التي غالباً ما قامت على رقعة جغرافية محددة، مكتفية ذاتياً بمواردها الخاصة، يتماهى فيها الولاء للإمارة مع الولاءات القبلية، وذلك على خلاف الولاء المديني الذي يعد المقدمة الضرورية لظهور الدولة التي هي في المحصلة نتيجة الاتحاد بين مدن عدة، يتوصّل سكانها إلى قناعة بأهمية وجود جهاز إداري، أو كيان سياسي إداري موحد، يضمن مصالحهم الاقتصادية في الداخل ومع الخارج.
وما يميز مرحلتنا المعاصرة تراجع النزعات الايديولوجية بمسمياتها المختلفة، في مقابل تقدم المصالح الاقتصادية، وذلك ما يتجلى من خلال تقارب برامج مختلف الأحزاب على رغم تصنيفاتها التقليدية ضمن اليمين واليسار والوسط، هذه المفاهيم التي هي أيضاً في طور التحول وإعادة النظر. ولعل نتائج الانتخابات الرئاسية الأخيرة في فرنسا، وقبلها في الولايات المتحدة، تؤسس لمرحلة جديدة، ستقطع مع الفكر السياسي النمطي الذي كان سائداً حتى الآن.
لقد باتت شروط تشكيل الدولة في كردستان العراق أكثر واقعية قياساً بما كانت عليه سابقاً. فهناك إدارة وفصل للسلطات على رغم كل الملاحظات، وعلاقات دولية متميزة، وقوة عسكرية أثبتت جدارتها في مواجهة خطر الإرهاب الداعشي. وهناك إرهاصات أولية لتجاوز مناخات العقلية الحزبية المحدودة الآفاق لمصلحة عقلية رجل الدولة الاستيعابية، وهناك جامعات ومراكز بحث، ودور نشر، ومؤسسات إعلامية نشيطة. هذا إلى جانب تبلور مقدمات أولية للانتماء المديني، على رغم استمرارية ثقل الولاء العشائري. ولكن مع كل ذلك، تبقى الركيزة الأهم هشة، تحتاج إلى المزيد من الاهتمام والدعم، ونعني بذلك المصلحة الاقتصادية المشتركة التي تربط بين مدن الإقليم الأساسية وسائر مناطقه، مصلحة تقوم على أساس مشاريع اقتصادية كبرى مشتركة، تضمن الحاجات الأساسية لجميع السكان بصرف النظر عن انتماءاتهم وتوجهاتهم، وتوفر سوق العمل كما تفتح أبواب التصدير أمام منتجات الإقليم التي لا بد أن تكون متنوعة، الأمر الذي يستوجب الاهتمام بقطاع الزراعة والثروة الحيوانية، والتفكير بصورة واقعية في تطوير قطاع صناعي متكامل مع القطاعات الانتاجية والخدمية. وكل ذلك لا بد أن يتجاوز حدود التباينات الحزبية، ويكون القائمون عليه من التكنوقراط ورجال الأعمال، أي أصحاب «الكار» إذا صح التعبير.
وبطبيعة الحال، هناك حاجة ماسة إلى اعتماد الشفافية عبر البيانات الحكومية ووسائل الإعلام، ووضع الضوابط الكافية للحد من ظواهر الهدر والتسيب والفساد التي تغيّب الإمكانات وتبدد الطاقات.
ومن المهم في هذا المجال، إنشاء المراكز البحثية التي تخدم العملية الانتاجية على مستوى الإقليم، كمراكز تضم الباحثين من مختلف المناطق للعمل معاً بعقلية الفريق الواحد، عوضاً عن المراكز المحلية، الخاضعة بهذه الصورة أو تلك، لهذا الحزب أو ذاك. وبالانسجام مع ما سبق، من المفيد توزيع الإدارات العامة بين المدن الأساسية بدل تركيزها في العاصمة.
هناك خطوات كثيرة يمكن التفكير فيها، من شأنها تشجيع أصحاب رؤوس الأموال ورجال الأعمال والمنتجين بصورة عامة، للبحث عن الحلول المشتركة ضمن كيان سياسي يضمن لهم تذليل العقبات، وتأمين المستلزمات، وتصريف الانتاج. وليس سراً أن التكنوقراط ورجال الأعمال هم الأكثر قدرة وخبرة على التفاهم مع الفاعلين الاقتصاديين المؤثرين في مستوى دول المنطقة والعالم، وهم الأكثر كفاءة في ميدان تحديد نقاط الضعف لتجاوزها، ونقاط القوة للبناء عليها، وإيجاد القواسم المشتركة التي تفتح الأبواب أمام تبادل المصالح والخبرات والإمكانات. وكل ذلك سيخفف من حدة النزاعات والتوجهات المتشجنة التي تحاول بمسمياتها المختلفة قطع الطريق أمام تحقق الحلم الكردي المشروع.