الكرد وشعوب المنطقة :لتسوية عادلة

عبد الباسط سيدا – الحياة

في مقدمة القضايا التي عجزت الأنظمة الحاكمة التي أتت في مرحلة ما بعد الاستقلال عن تناولها بحكمة، فضلاً عن معالجتها بعقلانية، بخاصة في سورية والعراق، تأتي القضيتان الدينية – المذهبية والقومية. ونشير هنا، إلى الشيعة مثالاً بالنسبة إلى الأولى، ونتوقف بالنسبة إلى الثانية عند الحالة الكردية بشيء من التفصيل، وذلك بالتزامن مع المناقشات الجارية بخصوص الاستفتاء المرتقب حول الاستقلال في إقليم كردستان العراق.

فقد خضع أتباع المذهب الشيعي والمحسوبون عليه لتهميش مجحف، تسبّب في تراكم الهواجس وردود الأفعال المتشنجة التي كانت أرضية مهيأة لجهود إيرانية، استهدفت توظيف ورقة المعاناة الشيعية لمصلحة مشروعها الإقليمي، بخاصة في أجواء تقاعس الدول العربية المعنية عن الاهتمام بمرجعياتها الشيعية الوطنية، وتخلّيها عنها، بل حتى اضطهادها لها في بعض الأحيان.

أما في ما يتصل بالقضية القومية، فقد تعامل الحكم البعثي في كل من سورية والعراق مع كل القوميات ما عدا العربية كأنها غير موجودة، بل تم التعامل معها، بخاصة الكردية منها، على أنها مدانة، «خاضعة للأوامر الاستعمارية». وأخذ على عاتقه مهمة استئصالها، وإلغائها بشتى السبل، بما في ذلك القوة العسكرية كما حصل في العراق على مدى عقود.

وفي يومنا الراهن، تغيّرت موازين القوى، وذلك نتيجة الأحداث والمتغيّرات التي واجهتها منطقتنا منذ الغزو العراقي للكويت عام 1990 وحتى وقتنا هذا.

فالشيعة قطعوا مع واقع التغييب والغبن عبر الاستقواء بقوة إقليمية عملت على احتكار ورقتهم، لتتصرف بوصفها مرجعيتهم الأساسية، إن لم نقل الوحيدة، في المنطقة والعالم. لتستخدمها أداة في زلزلة كيانات دولة المنطقة تناغماً مع أهدافها الداخلية والإقليمية.

أما بالنسبة إلى الكرد، فقد ظلت قضيتهم موضع تحالف المتخاصمين من قوى الإقليم، الذين يختلفون حول كل شيء، لكن التوافق يكون هو سيد الموقف حينما يتصل الأمر بكيفية منعهم من الوصول إلى حلمهم المشروع، عبر ممارسة السيادة ضمن نطاق دولة خاصة بهم، وذلك أسوة بالجميع.

وكانت الذرائع في المراحل السابقة تتمحور حول التشكيك في الوجود القومي الكردي أصلاً، أو التقليل من حجمه وأهميته. في حين أنها اليوم تتمترس خلف عدم ملاءمة الظروف، وضرورة الانتظار ريثما تستقر الأوضاع، كأن هذه القوى كانت في ظروف الاستقرار إلى جانب الحق الكردي، تدعمه قولاً وفعلاً.

لكن مهما يكن، فإن شعوب المنطقة بمختلف أديانها، مذاهبها، طوائفها، وقومياتها، هي التي ستستمر في العيش المشترك معاً ضمن إطار حاضنتها الجغرافية المشتركة. والمنطق السليم يلزمها بالبحث عن قواعد تحسين شروط العيش المشترك، إذا صح التعبير، سواء كانت ضمن الدول ذاتها، أم كانت متجاورة على مستوى الإقليم. أما أن تستمر في لعبة الاستقواء بالخارج في سبيل إرغام الشريك الداخلي على الخضوع، فهذا مؤداه استمرارية عدم الاستقرار، بل ديمومة الصراع والتناحر، وتبدد الطاقات.

من مصلحة الكرد اليوم، بناء أفضل العلاقات مع محيطهم العربي والتركي والفارسي. لكن في المقابل، من مصلحة العرب والترك والفرس الإقرار بالظلم الذي تعرض له الكرد، والعمل من أجل وضع حد له عبر الاعتراف بالحقوق الكردية المشروعة، والقطع مع عقلية اعتبار القضية الكردية في المنطقة مشكلة لا بد من التصدي لها إنكاراً وقمعاً وتنكيلاً. فهذا نهج أثبت عقمه منذ نحو قرن، وتسبّب في إزهاق أرواح أعداد لا تحصى من البشر، واستنزاف طاقات مادية هائلة.

والغريب اللافت، أن الدول التي تتقاسم كردستان تحاول التنصّل من مسؤولياتها إزاء ما تعرض، ويتعرض له، الكرد، وتحمّل الوزر للقوى الاستعمارية التي قسّمت المنطقة بناء على مصالحها، وظلمت الكرد. لكن القوى المعنية تركت المنطقة، وبات الأمر في عهدة الأنظمة الوطنية التي كان من المفروض أن تؤسس لمشاريع وطنية تطمئن سائر مكوناتها، وتذلل كل العراقيل التي من شأنها تعكير صفو العلاقة الطبيعية التشاركية بين تلك المكونات على قاعدة احترام الخصوصيات والحقوق.

المجاملات النمطية الخاوية لم تعد تقنع الكرد بعد كل التجارب الأليمة التي عاشوها، فتلك المجاملات لم ولن تحل قضيتهم. كما أن الإقرار بالحق الكردي وفق عقلية «نعم ولكن» يثبت أن أصحاب هذه العقلية لم يتحرروا بعد من قيود المنظومة المفهومية التي رسختها الأيديولوجيا القومية في صيغتها البعثية على الأخص. فقسم من هؤلاء يعترف اليوم بحقوق الكرد كجماعة بشرية أقوامية متمايزة، وهذا تقدم نسبي بذاته، لكنهم يمارسون كل أساليب المراوغة في سبيل التنصل من الاعتراف بوجود أرض كردية، تؤكدها معطيات التاريخ والجغرافيا، عاش عليها الكرد عبر العصور. ومن هنا كان الإصرار مثلاً على استخدام مصطلح «شمال العراق» عوضاً عن «كردستان العراق». هذا في حين أن الترجمة الحرفية لهذا الأخير تبيّن أنه مصطلح وصفي، حيادي على الصعيد الأيديولوجي، فهو يعني «أرض الكرد» أو «بلاد الكرد» أو «المنطقة الكردية». لكن الذي حصل أن هذا المصطلح حُمّل أيديولوجياً بكل الشحنات المتوترة، حتى بلغت الحساسيات مستوى أن مجرد استخدامه يعرض صاحبه للإدانة بـ «النزعة الانفصالية أو المؤامراتية أو الخضوع للأجنبي المتربص»، إلى ما هنالك من أحكام قيمية قدحية رغبوية.

ما نحتاج إليه على مستوى العلاقات العربية – الكردية هو تعزيز إجراءات الثقة. وهذه الأخيرة تستوجب الاحترام المتبادل، ومقاربة الموضوعات المشتركة بأدوات معرفية جديدة من خارج نطاق صندوق النمطيات والسرديات الانفعالية المتعالية.

هناك قواسم مشتركة كثيرة لا بد من البناء عليها. وهناك نقاط خلافية يمكن العمل عليها بعد التحرر من أوهام المسرح وأوهام السوق، وسائر العقد التي تقطع الطريق على الفكر الإبداعي الجاد الذي يتعامل مع القضايا بعقلية استيعابية، تمهد الطريق أمام التواصل الصادق بين القلوب الحية.

Comments (0)
Add Comment