«من تمثل المعارضة السورية؟ وما هو وزنها على الأرض؟ وما قدرتها على التأثير في مجرى الصراع؟». أسئلة تتكرر اليوم بصيغ مختلفة للتعليق على أوضاع المعارضة السياسية بعد انحسار دورها جراء سيادة لغة العنف والسلاح وتقدم دور القوى الاسلاموية المتطرفة في المشهد، وتالياً لنقد عجزها المزمن عن إطلاق المبادرات لتمكين الحراك الشعبي وتغذيته بالخبرات السياسية والمعرفية، والأهم لنقد إخفاقاتها المتعددة في توحيد خطابها وتجميع قواها وآخرها فشل الاجتماع الذي عقد أخيراً في القاهرة وضم أهم أطيافها.
يستند بعض المعارضين لنيل شرعيتهم وثقة الناس بهم إلى ماضٍ مترعٍ بالمعاناة والعذاب من ظلم النظام وقمعه المديد، فمنهم من قضى سنوات عديدة في السجون والمعتقلات، ومنهم من اكره على الهجرة إلى المنافي ولكنه لم ينقطع عن هموم بلاده السياسية، ومنهم من ركب موجة الحراك الشعبي وتصدر المشهد الإعلامي دفاعاً عن مطالب الناس ورفضاً للخيار الأمني والعنف السلطوي. وإذ استبشر المجتمع خيراً بتشكيلات تنظيمية للمعارضة السياسية بدأت تظهر تباعاً وتدعو للتغيير السلمي ولشعارات الحرية والمواطنة والديمقراطية، لكنها للأسف لم ترتق إلى مستوى التحديات والمسؤوليات الملقاة على عاتقها، وبدت خلال سنوات الصراع كأنها تدور حول نفسها أو في حلقة مفرغة، عاجزة عن معالجة مواطن خلل ضعفها وتشتتها.
ولتبرير هذا الواقع لم يعد يجدي الاتكاء على ما كابدته أحزاب المعارضة وكوادرها طيلة عقود من جور السلطة وظلمها. فهذا الماضي غير قابل للتسويق اليوم أمام فداحة ما قدمه ويقدمه السوريون من تضحيات، وأمام وضوح صورة مؤسفة لمعارضة تحكمها الحسابات الأنانية والذاتية وتضج بخلافات بينية ومزايدات لفظية وبصراع مؤذٍ ومكشوف على المراكز والامتيازات.
في المقابل تحاول جماعات من المعارضة السورية اكتساب شرعيتها من حصيلة الاعتراف الدولي بها ومن سعيها لنزع شرعية النظام واحتلال مواقعه في بعض المحافل والمؤسسات العربية والأممية. ولا يخفي هؤلاء سياستهم الدؤوبة في مغازلة واستمالة الأطراف الغربية والعربية المؤثرة في الصراع السوري والاستقواء بدعمها السياسي والمادي لفرض حضورهم ودورهم في المشهد، بما في ذلك حث هذه الأطراف على التدخل العسكري في البلاد، أسوة بما حصل في ليبيا، عبر تكرار الدعوات لفرض منطقة حظر جوي أو إقامة مناطق عازلة.
وعيانياً أفضت سياسة اكتساب هذا النوع من الشرعية إلى انصياع بعض أطراف المعارضة لأوامر الخارج والسير وفق حساباته وتوقيتاته، بدليل تزامن تطور العديد من مواقفها السياسية وتشكيلاتها التنظيمية مع مطالبه وليس وفق أجندة تتعلق بالوضع السوري الملموس وآفاق تطوره، زاد الطين بلة ركونها لوعود الغرب الزائفة وخطؤها في قراءة حساباته وأسباب إحجامه عن التدخل العسكري في سورية ربطاً بقوة مصالحه في إطالة أمد الصراع لاستنزاف خصومه وأعدائه. وإذا أضفنا نجاح التنظيمات الجهادية في التمدد والتهام ما تبقى من قوى عسكرية ومدنية كانت تحسب على المعارضة، نقف عند أهم الأسباب التي أفضت ليس فقط إلى شيوع استخفاف شعبي بهذه المعارضة وانحسار ثقة الناس بها واحترامهم لها، وإنما أيضاً إلى استخفاف أصدقائها العرب والغربيين بها، بدليل هذا الإهمال في التعاطي معها بعد أن تم تسويقها بزخم كبير، ثم عدم إشراكها اليوم في بعض الاجتماعات الدولية المتعلقة بالوضع السوري وحتى استشارتها أو إطلاعها على مسار تكوين التحالف الدولي ضد تنظيم «داعش».
ثمة شرعية مستجدة تستمدها المعارضة اليوم من الرهان شعبياً على دور ما، يمكن أن تلعبه في فك الاستعصاء القائم وفتح نافذة لوقف العنف ووضع الصراع السوري على سكة المعالجة السياسية، وهو دور ربما يكون متواضعاً لكن يفرضه إلحاح الناس على الخلاص من دوامة الفتك والتنكيل بعد سنوات عجاف أكلت الأخضر واليابس في حياتهم. خلاص من النتائج المدمرة للاستبداد واستمرار التوغل في طريق القوة والغلبة، وخلاص ملايين اللاجئين والنازحين السوريين من معاناة لم تعد تطاق بعيداً من أرضهم وديارهم، خلاص قطاعات شعبية واسعة صارت تعاني الأمرين من غياب الأمن ومن تفاقم أوضاعها المعيشية والاقتصادية ومن بحثها المضني عن معتقليها ومفقوديها، وخلاص من هم تحت رحمة سلطة إسلاموية تجبرهم على العيش وفق نمط حياة يعود لقرون غابرة وتنزل بهم أشنع العقوبات لقاء أقل اعتراض أو مخالفة.
صحيح أنها المرة الأولى في تاريخ المعارضة السورية التي توضع فيها أمام امتحان حقيقي لقيادة حراك شعبي يطالب بالتغيير الجذري، ولنقل لملء فراغ سياسي لم يكن في حساباتها وألقي على عاتقها في غفلة من الزمان، وصحيح أن ثمة مسؤولية أساسية تتحملها السلطة في رفض المعالجة السياسية وإصرارها على الخيار الأمني ومحاصرة قوى العمل السياسي والمدني وخنق دورها وقنوات تواصلها مع الناس. وصحيح أن ثمة مثالب وأمراضاً تعاني المعارضة منها جراء عقود من الاضطهاد وغياب السياسة يصعب معالجتها بسرعة، ولكن يصح اليوم بعد هذه السنوات الدامية، أن تدرك المعارضة مدى تقصيرها في التوصل إلى رؤية استراتيجية حول عملية التغيير وشروطها وما يكتنفها من منزلقات ومخاطر ضمن خصوصية المجتمع السوري بتعدديته القومية والدينية وبحساسية ارتباطاته الإقليمية والعالمية. ويصح أن تتجرأ بعد خيبات الأمل على الوقوف نقدياً لتجاوز أخطاء الماضي والتأسيس لشرعية لا تستند إلى سطوة إيديولوجية، دينية كانت أم ثورية، أو إلى رهان على دعم خارجي بل إلى ثقة الناس ورضاهم والتفافهم حولها من خلال قرن أقوالها بأفعالها وتمثل قيم الحرية والعدالة وحقوق الإنسان. والأهم إعادة الاعتبار لمفاهيم المسؤولية والحوار والمشاركة وإظهار روح التنافس الصحي بين جماعاتها على المزيد من الإيثار والتضحية، فالصراع لا يزال مفتوحاً على الفرص، ومسار التغيير يكاد لا يتوقف في زمن إلا يبدأ في زمن آخر.
أكرم البني
* كاتب سوري