مرزوق الحلبي – الحياة
نحن، الفلسطينيين، كنّا نقول، في السجالات الداخلية أو تلك التي مع الإسرائيليين، إننا لا نُريد “أكرَدة” القضية الفلسطينية لجهة توزيع شعبنا في دول عـــدة من دون أن يكون بإمكانه امتلاك إرادة جامعـــة تمكّنه من تجسيد حق تقرير مصيره في كـــيان دولاني مستقلّ، على اعتبار أن شعباً كالأكراد (أو كالكورد، كما يحلو لأصدقاء أكراد أن يُسمّوا شعبهم) لا يقلّ حقوقاً عنّا ولا يقلّ تجذّرًا في التاريخ، ولا يقلّ تطلّعًا إلى الكرامة الوطنية والاستقلال. والآن، نحن مضطرون لرؤية فكرة الاستقلال من زاوية الأكراد أنفسهم في العراق (الذي لم يعد عراقاً) وخطتهم الذهاب إلى استفتاء شعبي يريدونه خطوة أخرى نحو بناء الدولة الكردية المستقلّة.
نظرة إلى تاريخ علاقة الدولة مع الأكراد تدلّنا على مدى ظّلم هذه الدولة، في الإقليم كله، للأكراد وحقوقهم الجماعية كشعب وثقافة وهوية ومصير. فالدولة التُركية تضطهدهم إلى الآن وتخوض حرباً ضدهم، وإلى سنين خلت حُرموا التعليم بلغتهم بحجة التتريك وفرض السيادة التُركية. وفي العراق، حصل الأمر ذاته من حيث استعدائهم وخوض حرب ضدهم بحجة التعريب وفرض السيادة. وفي سورية لاحقتهم الدولة وهجّرتهم ونكّلت بهم بحجة عروبة مدّعاة ووطن وسيادة. أما إيران فلم تشذّ عن هذه القاعدة فجعلتهم ضحاياها. في كل الدول المذكورة تمّ تهميشهم تمامًا وإقصاؤهم واعتبارهم أعداء أو مجموعة مُشتبهاً بها دائماً، ما إن يتمّ تقريبها أو تحسين العلاقات معها حتى تنكفئ المعاملة وينعكس اتجاهها. بمعنى أن الدولة القومية في الإقليم لم تُنصف هذا الشعب ولم تعامل طموحاته وتطلعه إلى كرامة قومية ضمن الدولة من خلال صيغة سيادية تمنحه الأمان والحريات والتطور الطبيعي.
ومن هنـــا شعـــــوره بالمظلومية في ظــل الدولة وإن تفاوتت من إقليم إلى إقليم ومن فترة إلى أخرى، فإذا بروايتهم مع الدولة رواية مظلومين على طول الخط وإن أبدوا مرونة في التعامل مع الدولة واستعدادًا للتطبيع معها كمواطنين أو منطقة ذات حكم ذاتي ثقافي أو جغرافي.
على الغالب، الدولة هي التي أخفقت في تعاملها مع الأكراد وليس العكس. وموروث سايكس بيكو الاستعماري هو الذي خلق واقع انتشار الأكراد وتشتتهم في أربع دول، علما أن كردستان الممتدة من شرق تركيا إلى غرب إيران مروراً بالعراق وشمال شرقي سورية يُمكن أن تشكّل بسهولة إقليماً متواصلاً جغرافياً وثقافياً وسياسياً! وهو الواقع ذاته الذي جعل الدول المعنية، وإن تخاصمت إلى حدّ الحرب، تتعاون وتنسق وتتآمر لمنع الأكراد من تحسين أوضاعهم وتطوير كياناتهم السياسية وصولاً الى بناء دولة كردية. بل كانوا ضحية غزاوت وأعمال عسكرية من هذه الدولة أو تلك وبدعم هذه الدولة أو تلك لمنعهم من تحقيق ولو خطوة من مشروعهم في هذا الإقليم أو ذاك.
أما وقد تفكّكت سورية والعراق بسبب النظام المركزي ـ البعثي في الحالتين، واتسم المشروعان التركي والإيراني بنزعة إلى الهيمنة والتمدّد والعدوان ضد الأكراد، لم يبق لهم سوى استثمار ما طرأ واستجدّ للسعي إلى تطوير مشاريعهم السياسية. وهي مشاريع لا تروق لأي من الدول المعنية. فكيان سيادي كردي في شمال العراق يُشكل نموذجًا ونواة لدولة كردية في إقليم كردستان كله (أي في أربع دول قائمة). ومن هنا اهتمام تركيا بسورية واستثمار الحرب الأهلية وظهور داعش لضرب الإقليم الكردي في شمال سورية ونزعته إلى بناء كيان سيادي ذات حكم ذاتي. ومن هنا اهتمام العراق بتفهّم إيراني وتركي بالضغط بكل الطُرق لمنع إجراء الاستفتاء العام في إقليم كردستان. ومما قام به نظام بغداد حشد قواته على حدود الإقليم كخطوة متقدّمة في الصراع لإجهاض تطلعات الشعب الكردي نحو سيادة واستقلال في إقليم هو في واقع الأمر كذلك! ومن المفارقات أن نجد أن الدول المعنية وحلفاءها المتخاصمين الى حدّ الحروب الخفية والمُعلنة يتعاونون وينسّقون لمنع الأكراد من تحقيق حلمهم.
إن كل مناصر للقضية الفلسطينية لا يُمكنه إلا أن يؤيّد تطلع الأكراد إلى وطن مستقل سيادي. هذا على رغم علمنا بما طرأ على مفهوم حق تقرير المصير في القانون الدولي والعلوم السياسية في ضوء تجربة شعوب العالــم منذ فترة ما بين الحرب العالميتين إلى الآن. صحــيح أن هذا الحقّ يمكن أن يتجسّد في كيان سيادي أقل من دولة ـ ضمن حكم ذاتي متطور وعميق أو ضمـــن فيديراليـــة أو نظام الكانتونات كسويسرا أو غيرها من الأشكال كدولة ثنائية أو متعددة القوميات. لكن الدولة الإقليمية في مناطق كردســـتان لم تُفلح في أقلّ من هذا، وهي نفسها تفككــــت أو سالـــت عبــــر الحدود وتمددت، الأمر الذي لا يترك للأكراد أي فُرصة حتى لضمان كيانهم وثقافتهـــم كشعــب وجماعة ممتدة في عمق التاريخ والحيز الجغرافي. بل أجدني كفلسطينـــي أستمـــدّ الشعور بالأمل إذا ما استطاع الأكراد تحقيق حلمهم. وباعتقادي أننا في سيولةٍ تشكّلُ فرصاً لشعوب كالفلسطيني والكردي، وإن كانت تحمل في طياتها، أيضاً، الأخطار.
بعض العرب يتلهّون بدراسات وكتابات غربيــــة تشكّك في كــــون الأكراد شعباً! وبعضهم لا يــــزال يُبرّر معارضة استقلالهم بحجة العروبة (يعني المشاعر القومية) ذاتها التي جرّتنا إلى التهلـــكة ـ في القضية الفلسطينية أيــــضاً. وهي من التـــبريرات أكثر مما هي ادعاءات تستحقّ التوقف عندها. وأنا من هنا، في الكرمل علـــى ساحل حيفا، أنظر شمالاً إلى كردستان على أمل بأن تأتي البُشرى للفلسطينيين من هناك! وسأستسخف جداً أولئك الفلسطينيين الذين سيُشيـرون إلى تأيــيد إسرائيل الرسمية للمسعى الكُردي من أجل الوقوف ضده! فالوقوف ضدّه هو في الوقت ذاته بمثابة إطلاق عيار ناري آخر على الحــــق الفلسطـــــيني وعدالة القضية الفلســـطينية التي نُريد لها أن تتطوّر إلى ممارسة حق تقرير المصير على الأرض كما يحلم الأكراد!