منير الخطيب – الحياة
لم يكن استفتاء إقليم كردستان في العراق على حق تقرير المصير حدثاً مفاجئاً، وبالتأكيد ليس مؤامرة خارجية على «وحدة وسيادة العراق»، كما يردح القوميون العرب والإسلاميون، بل هو نتيجة واقعية ومنطقية وعقلية في مسار عراقي داخلي، كانت عناوينه الأبرز: فشل الأكثرية العربية في العراق، أساساً، في تشكيل مجال عام وفضاء وطني عراقي، وكذلك فشل العراقيين، طيلة القرن الماضي والعقد الأول من القرن الحالي، في بناء أمة عراقية ودولة وطنية أكانت مركزية أم فيديرالية.
وغني عن القول إن البعثيين، خلال النصف الثاني من القرن الماضي، سيّسوا العروبة وفرضوها بالقوة على المجال السياسي في العراق وسورية، بالتالي، أفضى تسييس العروبة، بوصفها عنصراً جزئياً في مجتمع ينطوي على التعدد والاختلاف القومي، إلى طرد بقية القوميات من المجال الذي يفترض أن يكون مجالاً وطنياً عاماً، وذلك بالتعاضد، أيضاً، مع فرض تصوراتهم حول مفهوم «الأمة» العرقي والعنصري على بقية الإثنيات العراقية. فـ «الأمة» في نظر البعثيين هي امتداد «نسلي» أو «فخذي»، كانوا يمطّونه كي يصل إلى قحطان وعدنان. بهذا تصير «الأمة» فخذاً وامتداداً ذكورياً فحلياً، ويغدو مفهوماً وفقاً لهذا التصور، أن يطلب القائمون على «ثوابت الأمة» من بقية الإثنيات أن يتحولوا حريماً شرقياً ملحقاً بمركز عروبي عصبوي غير وطني، لا يبالي بفكرة العقد الاجتماعي والفضاء العام والتوافقات الوطنية، وهذا بالضرورة ولّد عصبية قومية مضادة كردية وغير كردية.
والحال لم يتغيّر بعد سقوط نظام «البعثط، فالمجال السياسي العام أخضعته قوى الإسلام السياسي الشيعية وملاحقها الميليشيوية، بصرف النظر عن الشراكة التي تمت بين هذه القوى والقيادات الكردية في تقاسم الغنائم بعد سقوط نظام البعث، فهذه مسألة أخرى، ظل الوجدان الشعبي الكردي غير معني بها، فحلّ الإسلام السياسي الشيعي وميليشياته محل العروبة ومخابراتها، وتحوّل شعار «اجتثاث البعث» إلى اجتثاث فيزيائي للبعثيين، مع الاحتفاظ بنهجهم وطريقة حكمهم وتعاملهم مع فكرة الاجتماع الوطني من قبل تلك القوى ما دون الوطنية. هكذا انحدر مفهوم «الأمة» مع نهاجية تلك القوى إلى حضيض الملة المذهبية الملّحقة بذيل «دولة» الولي الفقيه العنصرية، وانحطّ مفهوم «الدولة – الأمة» إلى مجرد «سلطة» واقعة تحت هيمنة ميليشيات «الحشد الشعبي».
نعم، كانت مسألة الفضاء الوطني غير مفكر فيها من جانب العراقيين العرب ونخبهم السياسية القومية والإسلامية، فأُريد للكرد العراقيين أن يكونوا، مرة، رعايا ذميّين في «دولة» عروبية، ومرة أخرى رعايا مذهبيين في «دولة» عنصرية مذهبية، وبهذا كانت الأكثرية العربية تدفع الكرد دفعاً إلى خيار الانفصال، لأن الأمة كمفهوم أنتجته الحداثة، لا يبنى على فكرة «الأصل» العرقي أو الديني، بل إن الأمة تتشكل تعاقدياً في التاريخ، وتنمو وتتقدم وفقاً لإرادة عامة قائمة على الاجتماع الحر، فيما «الأمة – العرق» و «الأمة – المذهب» نكوص إلى الهمجية والتوحش. أما وقد دُفع الكرد إلى هذا الخيار، فأصبح الموقف من حق تقرير مصيرهم موقفاً مبدئياً من الحرية بوصفها ماهية الإنسان وجوهره، أي بوصفها مطلقاً أخلاقياً، فالوقوف مع حق تقرير مصيرهم يعني الانحياز الحاسم إلى قضايا الحرية والإنسان ككائن كلي مكتف بذاته، وإلى المطلق الأخلاقي: «فمن ليس في روحه وفكره المطلقُ الأخلاقي» لا يمكن أن يكون مواطناً وإنساناً، وبالتالي لا شعب ولا دولة ولا مجتمع ولا أمة من دون ذلك المطلق الأخلاقي. وبناء عليه، فالعرب الفلسطينيون والسوريون والعراقيون الذين عانوا مختلف أنواع البطش والاستبداد والعنصرية والقتل والتهجير والاعتقال، ولا ينحازون إلى حق الكرد العراقيين في تقرير مصيرهم، عندهم نقص في المبدأين الأخلاقي والوطني، لأن الموقف من الحرية لا يجوز أن يكون استنسابياً ومحكوماً بالهويّة العرقية والدينية.
وكذلك انطلاقاً من الحرية بوصفها قيمة أخلاقية مطلقة، نبارك للكرد استفتاءهم على حق تقرير مصيرهم، «ونبارك» للعرب وللعراقيين احتفاظهم بـ «ثوابت الأمتين» العربية والإسلامية، تلك «الثوابت» التي ما زال العرب والمسلمون يكتوون بنيرانها منذ حربي صفين والجمل وصولاً إلى تدمير المدن السنيّة في سورية والعراق.