د. جمال عبدالجواد
لاستفتاء الاستقلال فى كردستان العراق نتيجتان مؤكدتان: أغلبية كردية ساحقة مؤيدة للاستقلال، وتصعيد للصراع بين حكومة إقليم كردستان العراق وكل حكومات الطوق المحيط بالإقليم.
ظن الكثيرون أن الحكمة ستغلب العاطفة، وأن الحسابات الدقيقة ستهزم اندفاعة المشاعر، فتوقعوا قيام حكومة إقليم كردستان بالتراجع عن تنظيم الاستفتاء قبل وقت قصير من موعده، فالصراعات المترتبة على إجراء الاستفتاء تنذر بمأزق كبير من الحكمة تجنبه. غير أن الحكمة لا تغلب الغرائز – إلا استثناء – فى منطقتنا، والأمر يصبح أكثر التهابا وخطورة عندما يتعلق بصراعات الهوية التى تشل العقول وتعطل الحكمة.
لم يعد من الممكن تجنب جولة جديدة من الصراع حول مصير كردستان، لكن مازال لنا أن نتمنى أن تكون جولة الصراع الجديدة قصيرة وغير دامية، ومازال بإمكاننا التعلم من دروس جولات الصراع السابقة، وأهمهما درسان، أولهما هو أن إنكار حقوق الشعب الكردى لن يجلب السلام أو الأمن لدول المنطقة، وثانيهما هو أن قيام الدولة الكردية المستقلة هو احتمال بعيد جدا، بسبب ما يمثله قيام هكذا دولة من تهديد لكيانات عدة دول قائمة بالفعل، ولأمن ورفاهية الشعوب التى تعيش ضمن هذه الدول. إنكار وتذويب وتصفية قضية الشعب الكردى هو أمر غير ممكن. وبنفس القدر فإن الطلاق السياسى بين الكرد ودول المنطقة هو أيضا أمر غير ممكن، وعلى أطراف الصراع التحرك فى المسافة الفاصلة بين هذين البديلين المستحيلين.
الطلاق المستحيل بين العرب والكرد يجعل التفاهم بين الشعبين أمرا حتميا، غير أن الخطاب السائد فى العالم العربى بشأن الكرد لا يساعد على تهدئة النفوس وتفويت الصراع والتأسيس للتعايش. لقد تحسن الخطاب العربى بشأن الكرد كثيرا منذ زمن صدام حسين عندما كان يجرى قصف الأكراد بالكيماوى السام، إلا أن مفردات ومفاهيم الخطاب العربى فى الشأن الكردى مازالت محملة بمشاعر التخوين والتشكيك والاستعلاء والترهيب.
فى باب التخوين، يربط خصوم الكرد بين إسرائيل والمشروع القومى الكردى بطرق عدة. لا توجد رواية متماسكة عن الصلات الكردية الإسرائيلية، غير أن هذا لا يهم فى سياق المحاجاة والتلاسن القومي، فالمهم هو الجمع بين الكرد وإسرائيل فى عبارات تسمح بتحويل المشاعر السلبية والشكوك التى يحملها العرب لإسرائيل نحو الحركة القومية الكردية. الوقائع المتناثرة عن صلات وتعاطف إسرائيلى – كردى لا يمكن إنكارها، لكن من التعسف اختزال القضية الكردية فى رابطة مزعومة بإسرائيل.
فى باب التشكيك يثير الخطاب العربى التساؤلات حول الكرد، من هم، ومن أين أتوا، وما إذا كانت الأراضى التى يعيشون عليها تعود لهم، أم أنهم اغتصبوها من شعوب أخرى أقدم منهم؟ مستخدمو هذا النوع من الحجج ليسوا من علماء التاريخ والأجناس، وحججهم ليست من النوع الذى يصمد أمام أى تمحيص مبدئي، ولكنها من النوع الذى قد يلقى هوى لدى عوام، يريدون نزع شرعية التاريخ عن الكرد وقضيتهم.
فى باب الاستعلاء، يحب العرب إسماع نظرائهم الكرد محاضرات طويلة عن الشروط المفقودة للاستقلال وللدولة، وعن سوء اختيار توقيت إجراء الاستفتاء. يركز الكتاب والمتحدثون باستعلاء على الصراعات بين الأحزاب الكردية، وعلى تعطيل المؤسسات الديمقراطية فى كردستان، وعلى المخاوف بشأن مستقبل الأقليات الدينية والقومية فى الدولة الكردية. لمؤسسات الحكم والإدارة فى كردستان العراق عورات معروفة، فالإقليم الكردى هو – فى نهاية المطاف – جزء من عالمنا الثالث الكبير. مؤسسات الحكم الذاتى الكردى فى كردستان العراق مازالت قيد البناء، ولكنها شديدة التقدم بالقياس لمؤسسات الحكم والإدارة فى دول أعضاء فى الأمم المتحدة منذ عقود، بما فى ذلك بعض الدول العربية. مؤسسات الديمقراطية الكردية لا تعمل بكفاءة، ولكن لو طبقنا المعايير نفسها على دول عربية كثيرة لرشحناها للوضع ثانية تحت الانتداب. التشكيك العربى فى الجدارة الكردية يفتقد المصداقية، ولا يسلم من تهمة المعايير المزدوجة، وعلينا إيجاد حجج أكثر وجاهة من هذا لإثناء الكرد عن السعى نحو الاستقلال.
فى باب الترهيب، ينذر سياسيون ومثقفون الشعب الكردى بعظائم الأمور ووخيم الآثار وردود الأفعال حال الإقدام على الاستقلال. ما لا يلاحظه هؤلاء هو أن عود حركات التحرر القومى يصبح أكثر صلابة، وأن شعبيتها تتعزز، وتأخذ منحى أكثر راديكالية وتشددا كلما كان عليها أن تواجه صعابا أكبر. فالتخويف لن يؤدى إلى تخلى الكرد عن حلم الاستقلال، ولكنه فقط سيجعلهم مستعدين لبذل المزيد من التضحيات، وللتكيف مع سيناريو الصراع القومى الممتد المتصاعد الحدة.
يحتاج العرب إلى خطاب كردى جديد، على أن يمثل هذا الخطاب قطيعة مع كل الخطابات السابقة، وأن ينبنى على اعتذار عما ارتكبه السابقون، خاصة البعثيين منا، فى حق الأكراد. على العرب الكف عن ترهيب الأكراد بمخاطر الانفصال، وعليهم بدلا من ذلك البحث عن أسباب تغرى الكرد على البقاء ضمن الدول العربية فى حدودها الراهنة.
على العرب التوقف عن حديث الأحقية والأفضلية التاريخية، وعليهم بالمقابل تأكيد أن العرب والكرد فرض عليهم العيش معا فى أوطان لم يختاروا حدودها، وإنما رسمتها اتفاقات سايكس بيكو الاستعمارية. لقد خسرنا الكثير عندما تم تعيين حدود بلادنا عشوائيا واستعماريا، وليس من العدل أن نخسر مرة أخرى عندما يحاول بعضنا إعادة ترسيم الحدود بشكل منفرد أو بالقوة.
عرب العراق وسوريا يحتاجون للكرد ليس بسبب ثروات مادية تحتويها أرضهم، أو بسبب قيمة استراتيجية لأقاليمهم، وإنما لأن العرب يحتاجون إلى تنوع ثقافى يحميهم من مخاطر انغلاق مذهبى ودينى بات يهددهم. القومية الكردية الصاعدة تواصل إنتاج تيارات قومية علمانية، تحررية ومحافظة، فى الوقت الذى شاخت فيه الحركات القومية والوطنية العربية، فسيطرت على الشارع السياسى العربى تيارات دينية وطائفية، وهى التيارات التى أسهمت ومازالت تسهم فى صنع الأزمة السياسية فى العالم العربي. عرب المشرق – ومعهم فى هذا كل العرب – يحتاجون للرافد الكردى بما فيه من فتوة وطزاجة قد تسهم فى بث الحيوية فى دماء مجتمعات عربية شاخت قبل أن تنجز الحد الأدنى الضرورى من دولة الوطنية والحداثة.